جواهر القرآن أبو حامد الغزالي جواهر القران لأبي حامد الغزالي

 كتاب جواهر القرآن أبو حامد الغزالي

Translate

الخميس، 10 ديسمبر 2020

ابن تيمية في توحيد الله من 1-9 و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 14 من 1- و كتاب العقيدة الواسطيىة الباقي 1-17


١ مقدمة قاعدة جليلة في توحيد الله تأليف: أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما. وبعد: فهذه قاعدة جليلة في توحيد الله، وإخلاص الوجه والعمل له، عبادة واستعانة، قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} الآية [آل عمران: 26] ، وقال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] ، وقال تعالى: {وَإِن {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ} [الأنعام: 17] ، وقال تعالى فى الآية الأخرى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهٌِ} [يونس: 107] ، وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، وقال تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1] ، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] ، وقال تعالى: {ٍقُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} الآية [الزمر: 38] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22، 23] ، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 56، 57] ،وقال تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] ، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} الآية [الفرقان: 58: 59] ، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} الآية [البينة: 5] . ونظائر هذا فى القرآن كثير، وكذلك فى الأحاديث، وكذلك في إجماع الأمة، ولاسيما أهل العلم والإيمان منهم، فإن هذا عندهم قطب رحى الدين كما هو الواقع. ونبين هذا بوجوه نقدم قبلها مقدمة: ١


٢ مقدمة في حاجة الجميع الى الله وذلك أن العبد، بل كل حي، بل وكل مخلوق سوى الله، هو فقير محتاج إلى جَلْب ما ينفعه، ودفع ما يضره، والمنفعة للحي هي من جنس النعيم واللذة، والمضرَّة هي من جنس الألم والعذاب؛ فلابد له من أمرين: أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذي ينتفع ويلتذ به. والثاني: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع من دفع المكروه. وهذان هما الشيئان المنفصلان الفاعل والغاية فهنا أربعة أشياء: أحدها: أمر محبوب مطلوب الوجود. الثاني: أمر مكروه مبغض مطلوب العدم. والثالث: الوسيلة إلى حصول المطلوب المحبوب. والرابع: الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأربعة الأمور ضرورية للعبد، بل ولكل حي لا يقوم وجوده وصلاحه إلا بها، وأما ما ليس بحي فالكلام فيه على وجه آخر. إذا تبين ذلك فبيان ما ذكرته من وجوه: أحدها: أن الله تعالى هو الذي يحب أن يكون هو المقصود المدعو المطلوب، وهو المعين على المطلوب وما سواه هو المكروه، وهو المعين على دفع المكروه؛ فهو سبحانه الجامع للأمور الأربعة دون ما سواه، وهذا معنى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فإن العبودية تتضمن المقصود المطلوب، لكن على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذي يستعان به على المطلوب؛ فالأول: من معنى الألوهية. والثاني: من معنى الربوبية؛ معنى الألوهية: [إذ الإله] : هو الذي يؤله فيعبد محبة وإنابة وإجلالا وإكرامًا. والرب: هو الذى يربى عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إلى جميع أحواله من العبادة وغيرها. وكذلك قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِِ} [هود: 123] ، وقوله: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] ، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان: 58] ، وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] ، وقوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8، 9] . فهذه سبعة مواضع تنتظم هذين الأصلين الجامعين. الوجه الثإني: أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم، وبرؤيته فى الآخرة تَقَرُّ عُيونهم ولا شىء يعطيهم فى الآخرة أحب إليهم من النظر إليه؛ ولا شىء يعطيهم فى الدنيا أعظم من الإيمان به. وحاجتهم إليه فى عبادتهم إياه وتألههم كحاجتهم وأعظم فى خلقه لهم وربوبيته إياهم؛ فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم، وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم ولا لذة، بدون ذلك بحال. بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. ولهذا كان الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ولهذا كانت لا إله إلا الله أحسن الحسنات، وكان التوحيد بقول: لا إله إلا الله، رأس الأمر. فأما توحيد الربوبية الذى أقر به الخلق، وقرره أهل الكلام؛ فلا يكفى وحده، بل هو من الحجة عليهم، وهذا معنى ما يروى: " يابن آدم، خلقت كل شىء لك، وخلقتك لى، فبحقي عليك ألا تشتغل بما خلقته لك، عما خلقتك له ". واعلم أن هذا حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، كما فى الحديث الصحيح، الذى رواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتدرى ما حق الله على عباده؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا. أتدرى ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: " حقهم إن فعلوا ذلك ألا يعذبهم " وهو يحب ذلك، ويرضي به، ويرضي عن أهله، ويفرح بتوبة من عاد إليه؛ كما أن في ذلك لذة العبد وسعادته ونعيمه، وقد بينت بعض معنى محبة الله لذلك وفرحه به في غير هذا الموضع. فليس فى الكائنات ما يسكن العبد إليه ويطمئن به، ويتنعم بالتوجه إليه، إلا الله سبحانه، ومن عبد غير الله وإن أحبه وحصل له به مودة فى الحياة الدنيا ونوع من اللذة فهو مفسدة لصاحبه أعظم من مفسدة التلذاذ أكل الطعام المسموم، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 22] ، فإن قوامهما بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما آلهة غير الله لم يكن إلها حقّا؛ إذ الله لا سَمِيَّ له ولا مثل له؛ فكانت تفسد لانتفاء ما به صلاحها هذا من جهة الإلهية. وأما من جهة الربوبية فشىء آخر؛ كما نقرره فى موضعه المتكلمون. حاجة العبد إلى عبادة الله: واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئا، ليس له نظير فيقاس به؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة. فإن حقيقة العبد قلبه، وروحه، وهى لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذى لا إله إلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إلا بذكره، وهى كادحة إليه كَدْحًا فملاقيته، ولابد لها من لقائه، ولا صلاح لها إلا بلقائه. ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص، ويتنعم بهذا فى وقت وفى بعض الأحوال، وتارة أخرى يكون ذلك الذى يتنعم به والْتَذَّ غير منعم له ولا ملتذ له، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده، ويضره ذلك. وأما إلهه فلابد له منه فى كل حال وكل وقت، وأينما كان فهو معه؛ ولهذا قال إمامنا [إبراهيم] الخليل صلى الله عليه وسلم: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: 76] . وكان أعظم آية فى القرآن الكريم: {اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، وقد بسطت الكلام فى معنى [القيوم] فى موضع آخر، وبينا أنه الدائم الباقى الذى لا يزول ولا يعدم، ولا يفنى بوجه من الوجوه. واعلم أن هذا الوجه مبنى على أصلين: أحدهما: على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه كما عليه أهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم: إن عبادته تكليف ومشقة وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار، أو لأجل التعويض بالأجرة كما يقوله المعتزلة وغيرهم؛ فإنه وإن كان فى الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس، والله ـ سبحانه ـ يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة، كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ} الآية [التوبة: 120] ، وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة: " أجرك على قدر نصبك " ـ فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعى، وإنما وقع ضمنا وتبعا لأسباب ليس هذا موضعها، وهذا يفسر فى موضعه. ولهذا لم يجئ فى الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح: أنه تكليف، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة، وإنما جاء ذكر التكليف فى موضع النفى، كقوله: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] أى: وإن وقع فى الأمر تكليف، فلا يكلف إلا قدر الوسع، لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفًا، مع أن غالبها قرة العيون وسرور القلوب؛ ولذات الأرواح وكمال النعيم، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه، وذكره وتوجه الوجه إليه، فهو الإله الحق الذى تطمئن إليه القلوب، ولا يقوم غيره مقامه فى ذلك أبدًا. قال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] فهذا أصل. الأصل الثإني: النعيم فى الدار الآخرة أيضًا مثل النظر إليه، لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق: من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك، بل اللذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق سبحانه وتعالى، كما فى الدعاء المأثور: " اللهم إني أسألك لذة النَّظرِ إلى وجهك، والشَّوق إلى لقائك فى غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة ". رواه النسائى، وغيره. وفى صحيح مسلم وغيره، عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دخل أهل الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه. فيقولون: ما هو؟ ! ألم يُبَيِّضْ وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنْا من النار؟ ! ـ قال ـ فيكشف الحجاب؛ فينظرون إليه ـ سبحانه ـ فما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه "، وهو الزيادة. فبين النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله فى الجنة، لم يعطهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه، وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره. فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب، فكلما كان الشىء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم. وروى أن يوم الجمعة يوم المزيد، وهو يوم الجمعة من أيام الآخرة، وقد ورد من الأحاديث والآثار ما يصدق هذا، قال الله تعالى فى حق الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين: 15، 16] . فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم منه ـ تعالى. وهذان الأصلان ثابتان فى الكتاب والسنة، وعليهما أهل العلم والإيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الصوفية والعارفون، وعليهما أهل السنة والجماعة، وعوام الأمة، وذلك من فطرة الله التى فطر الناس عليها. وقد يحتجون على من ينكرها بالنصوص والآثار تارة؛ وبالذوق والوجد أخرى ـ إذا أنكر اللذة ـ فإن ذوقها ووجدها ينفى إنكارها. وقد يحتجون بالقياس فى الأمثال تارة؛ وهى الأقيسة العقلية. الوجه الثالث: أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع، ولا عز ولا ذل، بل ربه هو الذى خلقه ورزقه، وبصره وهداه وأسبغ عليه نعمه، فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله، وهذا الوجه أظهر للعامة من الأول؛ ولهذا خوطبوا به فى القرآن أكثر من الأول، لكن إذا تدبر اللبيب طريقة القرآن، وجد أن الله يدعو عباده بهذا الوجه إلى الأول. فهذا الوجه يقتضى: التوكل على الله، والاستعانة به، ودعاه، ومسألته، دون ما سواه. ويقتضى أيضا: محبة الله وعبادته لإحسانه إلى عبده، وإسباغ نعمه عليه، وحاجة العبد إليه فى هذه النعم، ولكن إذا عبدوه وأحبوه، وتوكلوا عليه من هذا الوجه، دخلوا فى الوجه الأول. ونظيره فى الدنيا من نزل به بلاء عظيم أو فاقة شديدة أو خوف مقلق، فجعل يدعو الله ويتضرع إليه حتى فتح له من لذة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولا حتى يطلبه ويشتاق إليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه، ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شىء من هذا، فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إحسانه. الوجه الرابع: أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه، إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته فى عبادة الله، فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته، ضره وأهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإن أحب شيئا حبًا تامًا بحيث يخالله فلابد أن يسأمه، أو يفارقه. وفى الأثر المأثور: " أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان " " واعلم أن كل من أحب شيئا لغير الله فلابد أن يضره محبوبه، ويكون ذلك سببا لعذابه؛ ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاعا أقرع يأخذ بلهزمته. يقول: أنا كنزك، أنا مالك. وكذلك نظائر هذا فى الحديث: " يقول الله يوم القيامة: يابن آدم، أليس عدلا منى أن أولى كل رجل منكم ما كان يتولاه فى الدنيا؟ ". وأصل التَّولِّىالحب؛ فكل من أحب شيئًا دون الله ولاه الله يوم القيامة ما تولاه، وأصلاه جهنم وساءت مصيرا، فمن أحب شيئًا لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد، أو فقد، فإن فقد عذب بالفراق وتألم، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة، وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء. وكل من أحب شيئًا دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته، فصارت المخلوقات وبالا عليه، إلا ما كان لله وفى الله، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه ". رواه الترمذى، وغيره. الوجه الخامس: أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته، فإنه يخذل من تلك الجهة، وهو أيضًا معلوم بالاعتبار والاستقراء، ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغير الله إلا خذل. وقد قال الله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81: 82] . وهذان الوجهان فى المخلوقات نظير العبادة والاستعانة فى المخلوق، فلما قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] كان صلاح العبد فى عبادة الله واستعانته. وكان فى عبادة ما سواه، والاستعانة بما سواه، مضرته وهلاكه وفساده. الوجه السادس: أن الله ـ سبحانه ـ غنى، حميد، كريم، واجد، رحيم، فهو ـ سبحانه ـ محسن إلى عبده مع غناه عنه؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإحسانا والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما، وإن كان ذلك أيضًا من تيسير الله تعالى، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله. فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته، سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم، فهم يحبون التمتع برؤيتهم، وسماع كلامهم، ونحو ذلك. وكذلك من أحب إنسانًا لشجاعته أو رياسته، أو جماله أو كرمه، فهو يحب أن ينال حظه من تلك المحبة، ولولا التذاذه بها لما أحبه، وإن جلبوا له منفعة كخدمة أو مال، أو دفعوا عنه مضرة كمرض وعدو ـ ولو بالدعاء أو الثناء ـ فهم يطلبون العوض إذا لم يكن العمل لله، فأجناد الملوك، وعبيد المالك، وأجَرَاءُ الصانع، وأعوان الرئيس، كلهم إنما يسعون فى نيل أغراضهم به، لا يعرج أكثرهم على قصد منفعة المخدوم، إلا أن يكون قد عُلِمَ وأدِّب من جهة أخرى، فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أو يكون فيها طبع عدل، وإحسان من باب المكافأة والرحمة، وإلا فالمقصود بالقصد الأول هو منفعة نفسه. وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه، وقسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريا. إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد منفعته بك، وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل، فإذا دعوته؛ فقد دعوت مَنْ ضَرُّهُ أقْرَبُ مِن نَفْعِهِ. والرب ـ سبحانه ـ يريدك لك، ولمنفعتك بك، لا لينتفع بك، وذلك منفعة عليك بلا مضرة. فتدير هذا، فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك، فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول، كما أنه لا يقدر عليه. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس، وترك الإحسان إليهم، واحتمال الأذى منهم، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم، وكما لا تَخَفْهُمْ فَلا تَرْجُهُمْ، وخَف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله، وارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وكن ممن قال الله فيه: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 17-20] وقال فيه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] . الوجه السابع: أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك، وإن كان ذلك ضررًا عليك، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها. الوجه الثامن: أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض، فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله، ولا يقصدون دفعها إلا لِغَرَضٍ لهم فى ذلك. الوجه التاسع: أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك، ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لا ينفعونك إلا بإذن الله، ولا يضرونك إلا بإذن الله، فلا تُعَلِّقْ بهم رجاءك. قال الله تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ} [الملك: 20-21] . والنصر يتضمن دفع الضرر، والرزق يتضمن حصول المنفعة قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3، 4] ، وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا} [القصص: 57] ، وقال الخليل ـ عليه السلام ـ: {رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} الآية [البقرة: 126] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم ": بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم؟ فَصل: في افتقار الإنسان إلى اختيار الله وتقديره جماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك، ولا قادر عليها، ولا مريد لها كما ينبغى، فغيرك من الناس أولى ألا يكون عالما بمصلحتك، ولا قادرًا عليها، ولا مريدا لها، والله ـ سبحانه ـ هو الذى يعلم ولا تعلم، ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله العظيم، كما فى حديث الاستخارة: " اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب ". ٢.


٣ فصل وهو مثل المقدمة لهذا الذي امامه فَصل: يتضمن مقدمة لتفسير إياك نعبد وإياك نستعين وهو مثل المقدمة لهذا الذى أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حى فهو كذلك له علم وعمل بإرادته. والإرادة هى المشيئة والاختيار، ولابد فى العمل الإرادى الاختيارى من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب، ووسائل تحصله، فإن حصل بفعل العبد فلابد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلابد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلابد من الأسباب، كالآلات ونحو ذلك، فلابد لكل حى من إرادة، ولابد لكل مريد من عون يحصل به مراده. فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئا ويريده، ويستعين بشىء ويعتمد عليه فى تحصيل مراده، هذا أمر حتْمٌ لازم ضرورى فى حق كل إنسان يجده فى نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه. والمستعان: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذى يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المعبود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض. ومن المستعان ما يكون هو الغاية التى يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية فى الاستعانة، ومنه ما يكون تبعًا لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع. فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لابد للنفس من شىء تطمئن إليه وتنتهى إليه محبتها، وهو إلهها. ولابد لها من شىء تثق به وتعتمد عليه فى نيل مطلوبها هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامًا وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقا، وسأل غير الله مطلقًا. مثل: عباد الشمس والقمر، وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم فى النوائب. وقد يكون خاصًا فى المسلمين، مثل: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة! ، إن أعطى رضي، وإن منع سخط! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش "، وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرؤساء ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هى التى تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها والمستعان هو مدعو ومسؤول. وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب فى رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل، وانقاد وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيرًا ممن يحب المال أو يحب من يحصل له به العز والسلطان. وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله، إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه، وإلا فلا فالأقسام ثلاثة؛ فقد يكون محبوبًا غير مستعان، وقد يكون مستعانًا غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران. فإذا علم أن العبد لابد له فى كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه ـ وذلك هو صمده الذى يصمد إليه فى استعانته وعبادته ـ تبين أن قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] كلام جامع محيط أولا وآخرًا، لا يخرج عنه شىء، فصارت الأقسام أربعة: إما أن يعبد غير الله ويستعينه ـ وإن كان مسلما ـ فالشرك فى هذه الأمة أخفى من دَبيبِ النمل. وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته من الملوك والأغنياء والمشائخ. وإما أن يستعينه ـ وإن عبد غيره ـ مثل كثير من ذوى الأحوال، وذوى القدرة وذوى السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجؤون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التى بعث الله بها رسوله. والقسم الرابع: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعى قد ذكر فيما بعد أيضا، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان؛ لبيان أنه لابد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام. ٣.



٤ فصل في الفاتحة وأما حديث فاتحة الكتاب، فقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثْنَى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله: مَجَّدَنى عبدي. وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ". وثبت فى صحيح مسلم عن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبى صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه، فقال: " هذا باب من السماء فتح اليوم ولم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، ولم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبى قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته "، وفى بعض الأحاديث: " إن فاتحة الكتاب أعطيها من كَنْز تحت العرش ". قال الله تعالى في أم القرآن والسبع المثاني والقرآن العظيم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ،وهذه السورة هى أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الشافية، وهي الواجبة فى الصلوات، لا صلاة إلا بها، وهى الكافية تكفي من غيرها ولا يكفي غيرها عنها. والصلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلفة من كلم طيب وعمل صالح، أفضل كلمها الطيب وأوجبه القرآن، وأفضل عملها الصالح وأوجبه السجود، كما جمع بين الأمرين في أول سورة أنزلها على رسوله، حيث افتتحها بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] وختمها بقوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] ، فوضعت الصلاة على ذلك أولها القراءة وآخرها السجود. ولهذا قال سبحانه فى صلاة الخوف: {فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} [النساء: 102] ، والمراد بالسجود الركعة التى يفعلونها وحدهم بعد مفارقتهم للإمام، وما قبل القراءة من تكبير واستفتاح، واستعاذة، هي تحريم للصلاة، ومقدمة لما بعده، أول ما يبتدئ به كالتقدمة، وما يفعل بعد السجود من قعود، وتشهد فيه التحية لله، والسلام على عباده الصالحين والدعاء والسلام على الحاضرين، فهو تحليل للصلاة ومعقبة لما قبله، قال النبى صلى الله عليه وسلم: " مفتاح الصلاة الطُّهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم ". ولهذا لما تنازع العلماء أيما أفضل كثرة الركوع والسجود أو طول القيام أو هما سواء على ثلاثة أقوال عن أحمد وغيره، كان الصحيح أنهما سواء، القيام فيه أفضل الأذكار، والسجود أفضل الأعمال فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم معتدلة، يجعل الأركان قريباً من السواء، وإذا أطال القيام طولاً كثيراً - كما كان يفعل فى قيام الليل وصلاة الكسوف - أطال معه الركوع والسجود، وإذا اقتصد فيه اقتصد فى الركوع والسجود، وأم الكتاب، كما أنها القراءة الواجبة فهي أفضل سورة فى القرآن. قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح: " لم ينزل فى التوراة ولا الإنجيل ولا الزَّبُور ولا القرآن مثلها، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته "، وفضائلها كثيرة جداً. وقد جاء مأثوراً عن الحسن البصري رواه ابن ماجه وغيره أن الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع علمها فى الأربعة، وجمع علم الأربعة فى القرآن، وجمع علم القرآن فى المفصَّل، وجمع علم المفصل فى أم القرآن، وجمع علم أم القرآن فى هاتين الكلمتين الجامعتين: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وإن علم الكتب المنزلة من السماء اجتمع فى هاتين الكلمتين الجامعتين. ولهذا ثبت في الحديث الصحيح حديث: "إن الله تعالى يقول: قسمت الصلاة بينى وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} قال الله: أثْنَى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال الله عز وجل: مَجَّدَنى عبدي - وفى رواية: فَوَّض إلى عبدى - وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: فهذه الآية بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ". فقد ثبت بهذا النص أن هذه السورة منقسمة بين الله وبين عبده وأن هاتين الكلمتين مقتسم السورة، ف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} مع ما قبله لله، و {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} مع ما بعده للعبد وله ما سأل؛ ولهذا قال من قال من السلف: نصفها ثناء ونصفها مسألة، وكل واحد من العبادة والاستعانة دعاء. وإذا كان الله قد فرض علىنا أن نناجيه وندعوه بهاتين الكلمتين فى كل صلاة، فمعلوم أن ذلك يقتضى أنه فرض علىنا أن نعبده وأن نستعينه؛ إذ إيجاب القول الذى هو إقرار واعتراف ودعاء وسؤال هو إيجاب لمعناه ليس إيجابا لمجرد لفظ لا معنى له، فإن هذا لا يجوز أن يقع؛ بل إيجاب ذلك أبلغ من إيجاب مجرد العبادة والاستعانة؛ فإن ذلك قد يحصل أصله بمجرد القلب، أو القلب والبدن، بل أوجب دعاء الله عز وجل ومناجاته، وتكليمه ومخاطبته بذلك ليكون الواجب من ذلك كاملا صورة ومعنى بالقلب وبسائر الجسد. وقد جمع بين هذين الأصلين الجامعين إيجاباً وغير إيجاب فى مواضع، كقوله فى آخر سورة هود: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] ، وقول العبد الصالح شعيب: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] ، وقول إبراهيم والذين معه: {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4] ، وقوله سبحانه إذ أمر رسوله أن يقول: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30] . فأمر نبيه بأن يقول: على الرحمن توكلت وإليه متاب، كما أمره بهما فى قوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] والأمر له أمر لأمته، وأمره بذلك فى أم القرآن وفى غيرها لأمته ليكون فعلهم ذلك طاعة لله وامتثالا لأمره، ولا يتقدموا بين يدى الله ورسوله؛ ولهذا كان عامة ما يفعله نبينا صلى الله عليه وسلم والخالصون من أمته من الأدعية والعبادات وغيرها إنما هو بأمر من الله؛ بخلاف من يفعل ما لم يؤمر به وإن كان حسناً أو عفواً، وهذا أحد الأسباب الموجبة لفضله وفضل أمته على من سواهم، وفضل الخالصين من أمته على المشوبين الذين شابوا ما جاء به بغيره، كالمنحرفين عن الصراط المستقيم. وإلى هذين الأصلين كان النبى صلى الله عليه وسلم يقصد فى عباداته وأذكاره ومناجاته، مثل قوله فى الأضحية: " اللهم هذا منك ولك "، فإن قوله: " منك " هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله: " لك " هو معنى العبادة، ومثل قوله في قيامه من الليل: " لك أسلمت، وبك آمنت، وعلىك توكلت، وإليك أنَبْت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذى لا يموت، والجن والإنس يموتون " إلى أمثال ذلك. الإنسان بين العبادة والاستعانة إذا تقرر هذا الأصل، فالإنسان فى هذين الواجبين لا يخلو من أحوال أربعة هي القسمة الممكنة، إما أن يأتي بهما، وإما أن يأتى بالعبادة فقط، وإما أن يأتى بالاستعانة فقط، وإما أن يتركهما جميعاً. ولهذا كان الناس فى هذه الأقسام الأربعة، بل أهل الديانات هم أهل هذه الأقسام، وهم المقصودون هنا بالكلام. قسم يغلب عليه قصد التأله: قسم يغلب عليه قصد التأله لله ومتابعة الأمر والنهى والإخلاص لله تعالى، واتباع الشريعة فى الخضوع لأوامره وزواجره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب الاستعانة والتوكل، فيكون إما عاجزاً وإما مفرطا، وهو مغلوب إما مع عدوه الباطن وإما مع عدوه الظاهر، وربما يكثر منه الجزع مما يصيبه، والحزن لما يفوته، وهذا حال كثير ممن يعرف شريعة الله وأمره، ويرى أنه متبع للشريعة وللعبادة الشرعية، ولا يعرف قضاءه وقدره، وهو حسن القصد، طالب للحق، لكنه غير عارف بالسبيل الموصلة، والطريق المفضية. وقسم يغلب عليه الاستعانة والتوكل: وقسم يغلب عليه قصد الاستعانة بالله والتوكل عليه، وإظهار الفقر والفاقة بين يديه، والخضوع لقضائه وقدره وكلماته الكونيات، لكن يكون منقوصا من جانب العبادة وإخلاص الدين لله، فلا يكون مقصوده أن يكون الدين كله لله، وإن كان مقصوده ذلك فلا يكون متبعاً لشريعة الله عز وجل ومنهاجه، بل قصده نوع سلطان فى العالم، إما سلطان قدرة وتأثير، وإما سلطان كشف وإخبار، أو قصده طلب ما يريده ودفع ما يكرهه بأي طريق كان، أو مقصوده نوع عبادة وتأله بأي وجه كان همته فى الاستعانة والتوكل المعينة له على مقصوده، فيكون إما جاهلا وإما ظالما تاركا لبعض ما أمره الله به، راكبا لبعض ما نهى الله عنه، وهذه حال كثير ممن يتأله ويتصوف ويتفقر، ويشهد قدر الله وقضاءه، ولا يشهد أمر الله ونهيه، ويشهد قيام الأكوان بالله وفقرها إليه، وإقامته لها ولا يشهد ما أمر به وما نهى عنه، وما الذي يحبه الله منه ويرضاه، وما الذي يكرهه منه ويسخطه. ولهذا يكثر في هؤلاء من له كشف وتأثير وخرق عادة مع انحلال عن بعض الشريعة، ومخالفة لبعض الأمر، وإذا أوغل الرجل منهم دخل فى الإباحية والانحلال، وربما صعد إلى فساد التوحيد فيخرج إلى الاتحاد والحلول المقيد، كما قد وقع لكثير من الشيوخ، ويوجد فى كلام صاحب " منازل السائرين " وغيره ما يفضي إلى ذلك وقد يدخل بعضهم فى " الاتحاد المطلق والقول بوحدة الوجود " فيعتقد أن الله هو الوجود المطلق، كما يقول صاحب " الفتوحات المكية " في أولها: الرب حق والعبد حق ياليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك ميت أو قلت رب أنى يكلف وقسم مُعْرِض عن الوجهين العبادة والاستعانة: وقسم ثالث مُعْرِضون عن عبادة الله وعن الاستعانة به جميعا. وهم فريقان: أهل دنيا وأهل دين، فأهل الدين منهم هم أهل الدين الفاسد الذين يعبدون غير الله، ويستعينون غير الله بظنهم وهوَاهم: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] ، وأهل الدنيا منهم الذين يطلبون ما يشتهونه من العاجلة بما يعتقدونه من الأسباب. واعلم أنه يجب التفريق بين من قد يعرض عن عبادة الله والاستعانة به، وبين من يعبد غيره ويستعين بسواه. ٤..


٥٥ فصل في معنى الحمد لله رب العالمين قال الله عز وجل فى أول السورة: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الفاتحة: 2] فبدأ بهذين الاسمين: الله، والرب. و" الله " هو الإله المعبود، فهذا الاسم أحق بالعبادة؛ ولهذا يقال: الله أكبر، الحمد لله، سبحان الله لا إله إلا الله. و" الرب " هو المربى الخالق الرازق الناصر الهادى. وهذا الاسم أحق باسم الاستعانة والمسألة؛ ولهذا يقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] ، {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23] ، {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16] ، {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147] ، {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، فعامة المسألة والاستعانة المشروعة باسم الرب. فالاسم الأول يتضمن غاية العبد ومصيره ومنتهاه، وما خلق له، وما فيه صلاحه وكماله، وهو عبادة الله، والاسم الثانى يتضمن خلق العبد ومبتداه، وهو أنه يربه ويتولاه مع أن الثانى يدخل فى الأول دخول الربوبية فى الإلهية، والربوبية تستلزم الألوهية أيضاً، والاسم " الرحمن " يتضمن كمال التعلقين، وبوصف الحالين فيه تتم سعادته فى دنياه وأخراه. ولهذا قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ} [الرعد: 30] ،فذكر هنا الأسماء الثلاثة: " الرحمن " و " ربى " و " الإله "، وقال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} كما ذكر الأسماء الثلاثة فى أم القرآن، لكن بدأ هناك باسم الله؛ ولهذا بدأ فى السورة ب {إيَّاكّ نّعًبٍد} فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن، فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية، فإنها علة فاعلىة للعلة الغائية. وقد بسطت هذا المعنى فى مواضع؛ فى أول " التفسير " وفى " قاعدة المحبة والإرادة " ٥.



٦ فصل في اقرار الناس بتوحيد الربوبية اسبق واكثر من الاقرار بتوحيد الالهية ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود، وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة، كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته، وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له، والإنابة إليه. ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية، وقد أخبر عنهم أنهم {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] ، وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال: {وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32] ، فأخبر أنهم مقرون بربوبيته، وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم، ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم. وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية، وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية، وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به فى الباطن من الأحوال التى بها يتصرفون، وهؤلاء من جنس الملوك، وقد ذم الله عز وجل فى القرآن هذا الصنف كثيراً، فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون فى الحقائق، ويعملون عليها، وهم لعمري فى نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية، وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة، وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به، والله سبحانه أعلم. ٦.



٧ فصل الانسان وجميع المخلوقات عبيد الله وذلك أن الإنسان، بل وجميع المخلوقات، عباد لله تعالى، فقراء إليه، مماليك له، وهو ربهم ومليكهم وإلههم، لا إله إلا هو، فالمخلوق ليس له من نفسه شىء أصلاً، بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق الله، والله عز وجل رب ذلك كله ومليكه، وبارئه وخالقه ومصوره. وإذا قلنا: ليس له من نفسه إلا العدم، فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود، بل العدم ليس بشىء، وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل، لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود، بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة، وبينهما فرق، وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل، وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل، فإنه يفضى إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزاً لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلاً، وإن كان يعقل أن عدم المقتضى أولى بعدم الأثر من العكس، فهذا لأنه لما كان وجود المقتضى هو المفيد لوجود المقتضى صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضى أو لوجود المانع. وبعد قيام المقتضى لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين، فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافى وهو أمر موجود، وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه، وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه. وهذا معنى قول المسلمين: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها، فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته، لا يكون شيء بدونها بحال، فليس لنا سبب يقتضى وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده، بل مشيئته هي السبب الكامل، فمع وجودها لا مانع، ومع عدمها لا مقتضى {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر: 2] {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 7] {قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون} [الزمر: 38] الإنسان ليس له نفسه خيرا أصلا: وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلاً، بل ما بنا من نعمة فمن الله، وإذا مسنا الضر فإليه نجأر، والخير كله بيديه، كما قال: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] ، وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم فى سيد الاستغفار الذى فى صحيح البخارى: " اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووَعْدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك علىّ، وأبوءُ بذنبى، فاغفر لى فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت "، وقال فى دعاء الاستفتاح الذى فى صحيح مسلم: " لبيك وسعديك، والخير بيديك، والشر ليس إليك، تباركت ربنا وتعاليت ". وذلك أن الشر إما أن يكون موجوداً أو معدوماً. فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها، مثل عدم الحياة، أو العلم، أو السمع أو البصر، أو الكلام، أو العقل، أو العمل الصالح على تنوع أصنافه، مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل علىه، والإنابة إليه، ورجائه وخشيته، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة، من الأقوال والأفعال. فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات، لكن هذا العدم ليس بشىء أصلاً، حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى الله، وإنما هو من لوازم النفس التى هى حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت، فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم، وبعد أن خلقت وقد خلقت ضعيفة ناقصة فيها النقص والضعف والعجز، فإن هذه الأمور عدمية، فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته، وعدم مقتضيه، وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء الله تعالى. الشر لا ينسب إلى الله: ونكتة الأمر: أن هذا الشر والسيئات العدمية، ليست موجودة حتى يكون الله خالقها، فإن الله خالق كل شىء. والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها، وتارة إلى وجود مانعها، فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين: أما الأول، فلأنه الحق المبين، فلا يقال: عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها. وأما الثانى وهو وجود المانع فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضى، ولو شاء فعلها لما منعه مانع، وهو سبحانه لا يمنع نفسه ما شاء فعله، بل هو فعال لما يشاء، ولكن الله قد يخلق هذا سبباً ومقتضياً ومانعاً، فإن جعل السبب تاماً لم يمنعه شيء، وإن لم يجعله تاماً منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له، فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه، كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه، وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة، ولوجود المانع منه أخرى. أما عدم السبب فظاهر؛ فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة، ولو كان منه شيء لكان سبباً فأضيف إليه لعدم السبب، ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة الله له، فما لم يصدر منه كان لعدم السبب. وأما وجود المانع المضاد له المنافى، فلأن نفسه قد تضيق وتضعف، وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة فى نفسها، متنافية في حقه، فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره، أو الكلام فى شيء أو النظر فيه أو إرادته، أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعاً وصاداً عن آخر. وإن كان ذلك خيراً لضيقه وعجزه، والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته، فعاد إلى العدم الذي هو منه، والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى الله تعالى، وأما إن كان الشيء موجوداً كالألم وسبب الألم، فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شراً على الإطلاق، ولا شراً محضاً، وإنما هو شر فى حق من تألم به، وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد. ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلاً: " آمنت بالقَدَر خيره وشره، وحلوه ومُرِّه "، وفى الحديث الذى رواه أبو داود: " لو أنفقت ملء الأرض ذَهَبا لما قَبِله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك "، فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء، وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شراً، ومن تنعم به فهو في حقه خير، كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يُعَلِّم من قصَّ عليه أخوه رؤيا أن يقول: " خيراً تلقاه وشراً توقاه، خيراً لنا وشراً لأعدائنا "، فإنه إذا أصاب العبد شر سُرَّ قلب عدوه، فهو خير لهذا وشر لهذا، ومن لم يكن له ولياً ولا عدواً فليس في حقه لا خيراً ولا شراً، وليس فى مخلوقات الله ما يؤلم الخلق كلهم دائماً، ولا ما يؤلم جمهورهم دائماً، بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم فى أغلب الأوقات، كالشمس والعافية، فلم يكن في الموجودات التى خلقها الله ما هو شر مطلقاً عاماً. فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص، وفيه وجه آخر هو به خير وحسن، وهو أغلب وجهيه، كما قال تعالى: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] ،وقال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88] ،وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] ، وقال: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران: 191] [لم تخلق الله شيئا إلا لحكمة] : وقد علم المسلمون أن الله لم يخلق شيئاً ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره، ولا يكون فى المخلوقات شر محض لا خير فيه، ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله: " والشر ليس إليك "، وكون الشر لم يُضَف إلى الله وحده، بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله. فهذا الشر الموجود الخاص المقيد سببه، إما عدم وإما وجود، فالعدم مثل عدم شرط أو جزء سبب؛ إذ لا يكون سببه عدماً محضاً؛ فإن العدم المحض لا يكون سبباً تاماً لوجود، ولكن يكون سبب الخير واللذة قد انعقد، ولا يحصل الشرط فيقع الألم، وذلك مثل عدم فعل الواجبات الذي هو سبب الذم والعقاب، ومثل عدم العلم الذي هو سبب ألم الجهل وعدم السمع والبصر والنطق الذي هو سبب الألم بالعمى والصمم والبكم، وعدم الصحة والقوة، الذي هو سبب الألم والمرض والضعف. فهذه المواضع ونحوها يكون الشر أيضاً مضافاً إلى العدم المضاف إلى العبد، حتى يتحقق قول الخليل: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ، فإن المرض وإن كان ألماً موجوداً فسببه ضعف القوة، وانتفاء الصحة الموجودة، وذلك عدم هو من الإنسان المعدوم بنفسه، ولا يتحقق قول الحق: {وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] ، وقوله: {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] ونحو ذلك فيما كان سببه عدم فعل الواجب، وكذلك قول الصحابى: وإن يكن خطأ فمنى ومن الشيطان. يببن ذلك أن المحرمات جميعها من الكفر والفسوق والعصيان إنما يفعلها العبد لجهله أو لحاجته، فإنه إذا كان عالما بمضرتها وهو غنى عنها امتنع أن يفعلها، والجهل أصله عدم، والحاجة أصلها العدم. فأصل وقوع السيئات منه عدم العلم والغنى؛ ولهذا يقول فى القرآن: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [هود: 20] ، {أَفَلَمْ تَكُونُوا تعقلون} . ؟ [يس: 62] ، {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءهُمْ ضَالِّينَ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69،70] ، إلى نحو هذه المعانى. الشر الذي سببه الوجود: وأما الموجود الذى هو سبب الشر الموجود الذى هو خاص كالآلام، مثل الأفعال المحرمة من الكفر الذى هو تكذيب أو استكبار، والفسوق الذى هو فعل المحرمات ونحو ذلك، فإن ذلك سبب الذم والعقاب، وكذلك تناول الأغذية الضارة، وكذلك الحركات الشديدة المورثة للألم، فهذا الوجود لا يكون وجوداً تاماً محضاً؛ إذ الوجود التام المحض لا يورث إلا خيراً، كما قلنا: إن العدم المحض لا يقتضى وجوداً، بل يكون وجوداً ناقصاً، إما فى السبب وإما فى المحل، كما يكون سبب التكذيب عدم معرفة الحق والإقرار به، وسبب عدم هذا العلم والقول عدم أسبابه، من النظر التام، والاستماع التام لآيات الحق وأعلامه. وسبب عدم النظر والاستماع، إما عدم المقتضى فيكون عدماً محضاً، وإما وجود مانع من الكبر أو الحسد فى النفس {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] ، وهو تصور باطل، وسببه عدم غنى النفس بالحق فتعتاض عنه بالخيال الباطل. والحسد أيضاً سببه عدم النعمة التى يصير بها مثل المحسود أو أفضل منه، فإن ذلك يوجب كراهة الحاسد لأن يكافئه المحسود، أو يتفضل عليه. وكذلك الفسوق كالقتل والزنا وسائر القبائح إنما سببها حاجة النفس إلى الاشتفاء بالقتل والالتذاذ بالزنا، وإلا فمن حصل غرضه بلا قتل أو نال اللذة بلا زنا لا يفعل ذلك، والحاجة مصدرها العدم، وهذا يبين إذا تدبره الإنسان أن الشر الموجود إذا أضيف إلى عدم أو وجود فلابد أن يكون وجوداً ناقصاً، فتارة يضاف إلى عدم كمال السبب أو فوات الشرط، وتارة يضاف إلى وجود، ويعبر عنه تارة بالسبب الناقص والمحل الناقص، وسبب ذلك إما عدم شرط أو وجود مانع، والمانع لا يكون مانعاً إلا لضعف المقتضى، وكل ما ذكرته واضح بين، إلا هذا الموضع ففيه غموض يتبين عند التأمل وله طرفان: أحدهما: أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً. والثانى: أن الموجود لا يكون سبباً للعدم المحض، وهذا معلوم بالبديهة أن الكائنات الموجودة لا تصدر إلا عن حق موجود. ولهذا كان معلوماً بالفطرة أنه لابد لكل مصنوع من صانع، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] ، يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم، أم هم خلقوا أنفسهم؟ ومن المتكلمين من استدل على هذا المطلوب بالقياس، وضرب المثال، والاستدلال عليه ممكن ودلائله كثيرة، والفطرة عند صحتها أشد إقراراً به، وهو لها أبْدَه، وهى إليه أشد اضطرارا من المثال الذى يقاس به. اختلاف الأصوليين في العلة الشرعية: وقد اختلف أهل الأصول فى العلة الشرعية، هل يجوز تعلىل الحكم الوجودى بالوصف العدمى فيها مع قولهم: إن العدمى يعلل بالعدمى؟ فمنهم من قال: يعلل به، ومنهم من أنكر ذلك، ومنهم من فصل بين ما لا يجوز أن يكون علة للوجود فى قياس العلة، ويجوز أن تكون علته له فى قياس الدلالة فلا يضاف إليه فى قياس الدلالة، وهذا فصل الخطاب، وهو أن قياس الدلالة يجوز أن يكون العدم فيه علة وجزءاً من علة؛ لأن عدم الوصف قد يكون دليلا على وصف وجودى يقتضى الحكم. وأما قياس العلة، فلا يكون العدم فيه علة تامة، لكن يكون جزءاً من العلة التامة وشرطا للعلة المقتضية التى ليست بتامة، وقلنا: جزء من العلة التامة، وهو معنى كونه شرطاً في اقتضاء العلة الوجودية، وهذا نزاع لفظى، فإذا حققت المعانى ارتفع. فهذا فى بيان أحد الطرفين وهو أن الموجود لا يكون سببه عدماً محضاً. وأما الطرف الثانى: وهو أن الموجود لا يكون سبباً لوجود يستلزم عدماً، فلأن العدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، بل يكفى فيه عدم السبب الموجود؛ ولأن السبب الموجود إذا أثر فلابد أن يؤثر شيئاً، والعدم المحض ليس بشىء، فالأثر الذي هو عدم محض بمنزلة عدم الأثر، بل إذا أثر الإعدام فالإعدام أمر وجودي فيه عدم، فإن جعل الموجود معدوماً والمعدوم موجوداً أمر معقول، أما جعل المعدوم معدوماً فلا يعقل إلا بمعنى الإبقاء على العدم، والإبقاء على العدم يكفي فيه عدم الفاعل، والفرق معلوم بين عدم الفاعل وعدم الموجب فى عدم العلة، وبين فاعل العدم، وموجب العدم، وعلة العدم. والعدم لا يفتقر إلى الثاني، يل يكفى فيه الأول. فتبين بذلك الطرفان، وهو أن العدم المحض الذي ليس فيه شوب وجود لا يكون وجودا ما؛ لا سبباً ولا مسبباً، ولا فاعلا ولا مفعولا أصلا، فالوجود المحض التام الذي ليس فيه شوب عدم لا يكون سبباً لعدم أصلا، ولا مسبباً عنه، ولا فاعلاً له ولا مفعولاً، أما كونه ليس مسبباً عنه ولا مفعولاً له فظاهر، وأما كونه ليس سبباً له، فإن كان سبباً لعدم محض فالعدم المحض لا يفتقر إلى سبب موجود، وإن كان لعدم فيه وجود فذاك الوجود لابد له من سبب، ولو كان سببه تاماً وهو قابل لما دخل فيه عدم؛ فإنه إذا كان السبب تاماً والمحل قابلا، وجب وجود المسبب، فحيث كان فيه عدم فلعدم ما فى السبب أو فى المحل فلا يكون وجوداً محضاً. فظهر أن السبب حيث تخلف حكمه إن كان لفوات شرط فهو عدم، وإن كان لوجود مانع فإنما صار مانعاً لضعف السبب، وهو أيضاً عدم قوته وكماله، فظهر أن الوجود ليس سبب العدم المحض، وظهر بذلك القسمة الرباعية، وهى أن الوجود المحض لا يكون إلا خيراً. يبين ذلك أن كل شرٍّ فى العالم لا يخرج عن قسمين: إما ألم وإما سبب الألم، وسبب الألم مثل الأفعال السيئة المقتضية للعذاب، والألم الموجود لا يكون إلا لنوع عدم، فكما يكون سببه تفرق الاتصال؛ وتفرق الاتصال هو عدم التأليف والاتصال الذى بينهما، وهو الشر والفساد. وأما سبب الألم، فقد قررت فى قاعدة كبيرة: أن أصل الذنوب هو عدم الواجبات لا فعل المحرمات، وإن فعل المحرمات إنما وقع لعدم الواجبات، فصار أصل الذنوب عدم الواجبات، وأصل الألم عدم الصحة؛ ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم يعلمهم فى خطبة الحاجة أن يقولوا: " ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا "، فيستعيذ من شر النفس الذى نشأ عنها من ذنوبها وخطاياها، ويستعيذ من سيئات الأعمال التى هى عقوباتها وآلامها؛ فإن قوله: " ومن سيئات أعمالنا " قد يراد به السيئات فى الأعمال، وقد يراد به العقوبات، فإن لفظ السيئات فى كتاب الله يراد به ما يسوء الإنسان من الشر، وقد يراد به الأعمال السيئة، قال تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران: 120] ، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36] . ومعلوم أن شر النفس هو الأعمال السيئة، فتكون سيئات الأعمال هى الشر والعقوبات الحاصلة بها فيكون مستعيذاً من نوعى السيئات؛ الأعمال السيئة وعقوباتها، كما فى الاستعاذة المأمور بها فى الصلاة: " أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال "، فأمرنا بالاستعاذة من العذاب عذاب الآخرة وعذاب البرزخ ومن سبب العذاب، ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال. وذكر الفتنة الخاصة بعد الفتنة العامة فتنة المسيح الدجال فإنها أعظم الفتن، كما فى الحديث الصحيح: " ما من خَلْق آدم إلى قيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال " ٧



٨ فصل العبد وكل مخلوق فقير الى الله [العبد وكل مخلوق غفير إلى الله] إذا ظهر أن العبد وكل مخلوق فقير إلى الله محتاج إليه ليس فقيراً إلى سواه، فليس هو مستغنياً بنفسه ولا بغير ربه، فإن ذلك الغير فقير أيضاً محتاج إلى الله، ومن المأثور عن أبى يزيد رحمه الله أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق. وعن الشيخ أبى عبد الله القرشى [هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم، الأندلسى الصوفى، أحد العارفين وصاحب الكرامات والأحوال، له كلمات وجمل فى آداب المعاملات وطرائق أهل الرياضات جمعها بعض تلاميذه فى كتاب الفصول أقام بمصر مدة، وسكن القدس وتوفى بها سنة 995هـ عن خمس وخمسين سنة] أنه قال: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون. وهذا تقريب وإلا فهو كاستغاثة العدم بالعدم؛ فإن المستغاث به إن لم يخلق الحق فيه قوة وحولا وإلا فليس له من نفسه شىء، قال سبحانه: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وقال تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ} [البقرة: 102] واسم العبد يتناول معنيين: أحدهما: بمعنى العابد كرهاً، كما قال: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] ،وقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وقال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117، والأنعام: 101] ، {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116،والروم: 26] ،وقال: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] . والثانى: بمعنى العابد طوعاً وهو الذى يعبده ويستعينه، وهذا هو المذكور فى قوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] ، وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] ،وقوله: {نَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، وقوله: {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 40] ، وقوله: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] ، وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص: 45] ، وقوله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] ، وقوله: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30، 44] ، وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] ، وقوله: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن: 19] . وهذه العبودية قد يخلو الإنسان منها تارة، وأما الأولى فوصف لازم، إذا أريد بها جريان القدر عليه وتصريف الخالق له، فإن فقر المخلوق وعبوديته أمر ذاتي له لا وجود له بدون ذلك، والحاجة ضرورية لكل المصنوعات المخلوقات، وبذلك هي أنها لخالقها وفاطرها؛ إذ لا قيام لها بدونه، وإنما يفترق الناس فى شهود هذا الفقر والاضطرار وعزوبه عن قلوبهم للاستسلام والانقياد لمن أنت إليه فقير وهو ربك وإلهك. قال تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] ، وعامة السلف على أن المراد بالاستسلام: استسلامهم له بالخضوع والذل، لا مجرد تصريف الرب لهم، كما فى قوله: {وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15] ، وهذا الخضوع والذل هو أيضاً لازم لكل عبد لابد له من ذلك، وإن كان قد يعرض له أحياناً الإعراض عن ربه والاستكبار، فلابد له عند التحقيق من الخضوع والذل له وهذا العلم والعمل أمر فطري ضروري؛ فإن النفوس تعلم فقرها إلى خالقها، وتذل لمن افتقرت إليه، وغناه من الصمدية التى انفرد بها، فإنه {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن: 29] ، وهو شهود الربوبية بالاستعانة والتوكل والدعاء والسؤال، ثم هذا لا يكفيها حتى تعلم ما يصلحها من العلم والعمل، وذلك هو عبادته والإنابة إليه؛ فإن العبد إنما خلق لعبادة ربه، فصلاحه وكماله ولذته وفرحه وسروره فى أن يعبد ربه وينيب إليه، وذلك قدر زائد على مسألته والافتقار إليه؛ فإن جميع الكائنات حادثة بمشيئته، قائمة بقدرته وكلمته، محتاجة إليه، فقيرة إليه، مسلمة له طوعاً وكرهاً، فإذا شهد العبد ذلك وأسلم له وخضع، فقد آمن بربوبيته، ورأى حاجته وفقره إليه صار سائلا له متوكلا عليه مستعيناً به، إما بحاله أو بِقَالِه، بخلاف المستكبر عنه المعرض عن مسألته. أنواع شؤال العبد ربه: ثم هذا المستعين به السائل له، إما أن يسأل ما هو مأمور به، أو ما هو منهى عنه، أو ما هو مباح له، فالأول حال المؤمنين السعداء الذين حالهم: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، والثانى حال الكفار والفساق والعصاة الذين فيهم إيمان به وإن كانوا كفاراً، كما قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 106] فهم مؤمنون بربوبيته، مشركون فى عبادته، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم لحُصَيْن الخزاعى: " يا حصين، كم تعبد؟ " قال: سبعة آلهة؛ ستة فى الأرض وواحدا فى السماء، قال: " فمن الذي تدع لرَغْبَتك ورَهْبَتك؟ "، قال: الذي فى السماء، قال: " أسلم حتى أعلمك كلمة ينفعك الله تعالى بها "، فأسلم، فقال: " قل: اللهم ألهمني رشدي، وقِنِي شر نفسي " رواه أحمد وغيره. ولهذا قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] ، أخبر سبحانه أنه قريب من عباده، يجيب دعوة الداعى إذا دعاه، فهذا إخبار عن ربوبيته لهم، وإعطائه سؤلهم، وإجابة دعائهم؛ فإنهم إذا دعوه فقد آمنوا بربوبيته لهم، وإن كانوا مع ذلك كفاراً من وجه آخر، وفساقاً أو عصاة، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67] ، وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [يونس: 12] ،ونظائره في القرآن كثيرة، ثم أمرهم بأمرين فقال: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] . فالأول أن يطيعوه فيما أمرهم به من العبادة والاستعانة، والثانى الإيمان بربوبيته وألوهيته، وأنه ربهم وإلههم. ولهذا قيل: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد، وعن كمال الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} والطاعة والعبادة هى مصلحة العبد التى فيها سعادته ونجاته، وأما إجابة دعائه وإعطاء سؤاله، فقد يكون منفعة وقد يكون مضرة، قال تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً} [الإسراء: 11] ،وقال تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] ، وقال تعالى عن المشركين: {وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ،وقال: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 19] ،وقال: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] ، وقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الآية [الأعراف: 175، 176] ،وقال: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] ، وقال النبى صلى الله عليه وسلم لما دخل على أهل جابر فقال: " لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون ". ٨.


٩. فصل العبد فقير الى الله فيما يصلحه ويقصده [العبد فقير إلى الله في ما يصلحه وبقصده] فالعبد كما أنه فقير إلى الله دائماً فى إعانته وإجابة دعوته وإعطاء سؤاله وقضاء حوائجه فهو فقير إليه فى أن يعلم ما يصلحه وما هو الذي يقصده ويريده، وهذا هو الأمر والنهي والشريعة، وإلا فإذا قضيت حاجته التى طلبها وأرادها ولم تكن مصلحة له كان ذلك ضرراً علىه، وإن كان في الحال له فيه لذة ومنفعة فالاعتبار بالمنفعة الخالصة أو الراجحة، وهذا قد عَرَّفه الله عباده برسله وكتبه. علموهم، وزكوهم، وأمروهم بما ينفعهم، ونهوهم عما يضرهم، وبينوا لهم أن مطلوبهم ومقصودهم ومعبودهم يجب أن يكون هو الله وحده لا شريك له، كما أنه هو ربهم وخالقهم، وأنهم إن تركوا عبادته أو أشركوا به غيره خسروا خسراناً مبيناً، وضلوا ضلالا بعيداً، وكان ما أوتوه من قوة ومعرفة وجاه ومال وغير ذلك وإن كانوا فيه فقراء إلى الله مستعينين به علىه، مقرين بربوبيته فإنه ضرر علىهم، ولهم بئس المصير وسوء الدار. وهذا هو الذي تعلق به الأمر الديني الشرعى والإرادة الدينية الشرعية، كما تعلق بالأول الأمر الكونى القدري والإرادة الكونية القدرية. والله سبحانه قد أنعم على المؤمنين بالإعانة والهداية؛ فإنه بين لهم هُدَاهم بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وأعانهم على اتباع ذلك علماً وعملا، كما مَنَّ علىهم وعلى سائر الخلق بأن خلقهم ورزقهم وعافاهم، ومَنَّ على أكثر الخلق بأن عرفهم ربوبيته لهم وحاجتهم إليه، وأعطاهم سؤلهم، وأجاب دعاءهم، قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ، فكل أهل السموات والأرض يسألونه، فصارت الدرجات أربعة: قوم لم يعبدوه ولم يستعينوه، وقد خلقهم ورزقهم وعافاهم. وقوم استعانوه فأعانهم ولم يعبدوه. وقوم طلبوا عبادته وطاعته، ولم يستعينوه ولم يتوكلوا عليه. والصنف الرابع: الذين عبدوه واستعانوه فأعانهم على عبادته وطاعته، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد بين سبحانه ما خص به المؤمنين فى قوله: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] . [آخر قاعدة التوحيد والحمد لله رب العالمين] ٩



2. الكناب الثاني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

١. الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بسم الله الرحمن الرحيم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله من الدين. فإن رسالة الله: إما إخبار، وإما إنشاء. فالإخبار عن نفسه وعن خلقه: مثل التوحيد والقصص الذي يندرج فيه الوعد والوعيد. والإنشاء الأمر والنهي والإباحة. وهذا كما ذكر في أن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] (سورة الإخلاص: آية 1) . تعدل ثلث القرآن؛ لتضمنها ثلث التوحيد؛ إذ هو قصص وتوحيد وأمر. وقوله سبحانه في صفة نبينا، صلى الله عليه وسلم: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] (سورة الأعراف: من الآية 157) هو بيان لكمال رسالته؛ فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر الله على لسانه بكل معروف، ونهى عن كل منكر وأحل كل طيب وحرم كل خبيث، ولهذا روي عنه أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» . وقال في الحديث المتفق عليه: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها إلا موضع لبنة فكان الناس يطيفون بها ويعجبون من حسنها ويقولون: لولا موضع اللبنة! فأنا تلك اللبنة» . فبه كمل دين الله المتضمن للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، وإحلال كل طيب وتحريم كل خبيث. وأما من قبله من الرسل فقد كان يحرم على أممهم بعض الطيبات، كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] (سورة النساء: من الآية 165) . وربما لم يحرم عليهم جميع الخبائث، كما قال تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} [آل عمران: 93] (سورة آل عمران: من الآية 93) . وتحريم الخبائث يندرج في معنى: " النهي عن المنكر "، كما أن إحلال الطيبات يندرج في: " الأمر بالمعروف "، لأن تحريم الطيبات مما نهى الله عنه، وكذلك الأمر بجميع المعروف والنهي عن كل منكر مما لم يتم إلا للرسول الذي تمم الله به مكارم الأخلاق المندرجة في المعروف، وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] (سورة المائدة: من الآية 3) . فقد أكمل الله لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. وكذلك وصف الأمة بما وصف به نبيها حيث قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] (سورة آل عمران: من الآية 110) . وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] (سورة التوبة: من الآية 71) . ولهذا قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم في الأقياد والسلاسل حتى تدخلوهم الجنة. فبين سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس: فهم أنفعهم لهم، وأعظمهم إحسانا إليهم؛ لأنهم كملوا أمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر من جهة الصفة والقدر، حيث أمروا بكل معروف ونهوا عن كل منكر لكل أحد، وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم، وهذا كمال النفع للخلق. وسائر الأمم لم يأمروا كل أحد بكل معروف ولا نهوا كل أحد عن كل منكر، ولا جاهدوا على ذلك. بل منهم من لم يجاهد، والذين جاهدوا كبني إسرائيل فعامة جهادهم كان لدفع عدوهم عن أرضهم، كما يقاتل الصائل الظالم؛ لا لدعوة المجاهدين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما قال موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ - قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 21 - 22] (سورة المائدة: الآيتان 21، 22) . إلى قوله: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] (سورة المائدة: آية 24) . وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة: 246] (سورة البقرة: من الآية 246) . فعللوا القتال بأنهم أخرجوا من ديارهم وأبنائهم، ومع هذا فكانوا ناكلين عما أمروا به من ذلك؛ ولهذا لم تحل لهم الغنائم ولم يكونوا يطؤون بملك اليمين. ومعلوم أن أعظم الأمم المؤمنين قبلنا بنو إسرائيل؛ كما جاء في الحديث المتفق على صحته في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي ومعه الرجل والنبي ومعه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد، ورأيت سوادا كثيرا سد الأفق فرجوت أن يكون أمتي؛ فقيل: هذا موسى وقومه. ثم قيل لي: انظر فرأيت سوادا كثيرا سد الأفق، فقيل: هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب. فتفرق الناس ولم يبين لهم، فتذاكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: أما نحن فولدنا في الشرك ولكنا آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء أبناؤنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال: أمنهم أنا يا رسول الله؛ قال: " نعم " فقام آخر فقال: أمنهم أنا؛ فقال: سبقك بها عكاشة» . ولهذا كان إجماع هذه الأمة حجة؛ لأن الله تعالى أخبر أنهم يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر؛ فلو اتفقوا على إباحة محرم أو إسقاط واجب، أو تحريم حلال، أو إخبار عن الله تعالى أو خلقه بباطل: لكانوا متصفين بالأمر بمنكر والنهي عن معروف: من الكلم الطيب والعمل الصالح؛ بل الآية تقتضي أن ما لم تأمر به الأمة فليس من المعروف، وما لم تنه عنه فليس من المنكر. وإذا كانت آمرة بكل معروف ناهية عن كل منكر: فكيف يجوز أن تأمر كلها بمنكر أو تنهى كلها عن معروف؟ والله تعالى كما أخبر بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقد أوجب ذلك على الكفاية منها بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] (سورة آل عمران: آية 104) . وإذا أخبر بوقوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منها لم يكن من شرط ذلك أن يصل أمر الآمر ونهي الناهي منها إلى كل مكلف في العالم؛ إذ ليس هذا من شرط تبليغ الرسالة: فكيف يشترط فيما هو من توابعها؛ بل الشرط أن يتمكن المكلفون من وصول ذلك إليهم. ثم إذا فرطوا فلم يسعوا في وصوله إليهم مع قيام فاعله بما يجب عليه: كان التفريط منهم لا منه. وكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه، بل هو على الكفاية، كما دل عليه القرآن، ولما كان الجهاد من تمام ذلك كان الجهاد أيضا كذلك، فإذا لم يقم به من يقوم بواجبه أثم كل قادر بحسب قدرته؛ إذ هو واجب على كل إنسان بحسب قدرته. ١



٢ مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . وإذا كان كذلك؛ فمعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتمامه بالجهاد هو من أعظم المعروف الذي أمرنا به؛ ولهذا قيل: ليكن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر غير منكر، وإذا كان هو من أعظم الواجبات والمستحبات فالواجبات والمستحبات لا بد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة؛ إذ بهذا بعثت الرسل ونزلت الكتب، والله لا يحب الفساد؛ بل كل ما أمر الله به فهو صلاح. وقد أثنى الله على الصلاح والمصلحين والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذم المفسدين في غير موضع، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته لم تكن مما أمر الله به، وإن كان قد ترك واجب وفعل محرم؛ إذ المؤمن عليه أن يتقي الله في عباده وليس عليه هداهم، وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) . والاهتداء إنما يتم بأداء الواجب، فإذا قام المسلم بما يجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قام بغيره من الواجبات لم يضره ضلال الضلال. وذلك يكون تارة بالقلب، وتارة باللسان، وتارة باليد. فأما القلب فيجب بكل حال؛ إذ لا ضرر في فعله، ومن لم يفعله فليس هو بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وذلك أدنى - أو - أضعف الإيمان» وقال: «ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل» وقيل لابن مسعود: من ميت الأحياء؟ فقال: الذي لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. وهذا هو المفتون الموصوف في حديث حذيفة بن اليمان. وهنا يغلط فريقان من الناس: فريق يترك ما يجب من الأمر والنهي تأويلا لهذه الآية، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في خطبته إنكم تقرؤون هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) وإنكم تضعونها في غير موضعها، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه» . والفريق الثاني: من يريد أن يأمر وينهى إما بلسانه وإما بيده مطلقا، من غير فقه وحلم وصبر ونظر فيما يصلح من ذلك وما لا يصلح، وما يقدر عليه وما لا يقدر، كما في حديث أبي ثعلبة الخشني: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه، ورأيت أمرا لا يدان لك به، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام؛ فإن من ورائك أياما الصبر فيهن على مثل قبض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله» فيأتي بالأمر والنهي معتقدا أنه مطيع في ذلك لله ورسوله وهو معتد في حدوده، كما انتصب كثير من أهل البدع والأهواء، كالخوارج والمعتزلة والرافضة، وغيرهم ممن غلط فيما أتاه من الأمر والنهي والجهاد على ذلك، وكان فساده أعظم من صلاحه؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على جور الأئمة، ونهى عن قتالهم ما أقاموا الصلاة، وقال: «أدوا إليهم حقوقهم، وسلوا الله حقوقكم» . وقد بسطنا القول في ذلك في غير هذا الموضع. ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة وترك قتال الأئمة، وترك القتال في الفتنة، وأما أهل الأهواء - كالمعتزلة - فيرون القتال للأئمة من أصول دينهم، ويجعل المعتزلة أصول دينهم خمسة: " التوحيد " الذي هو سلب الصفات؛ و " العدل " الذي هو التكذيب بالقدر؛ و " المنزلة بين المنزلتين " و " إنفاذ الوعيد " و " الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ". الذي منه قتال الأئمة. وقد تكلمت على قتال الأئمة في غير هذا الموضع. وجماع ذلك داخل في " القاعدة العامة ": فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد. فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته؛ لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقل أن تعوز النصوص من يكون خبيرا بها وبدلالتها على الأحكام. وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعا، أو يتركوهما جميعا: لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر؛ بل ينظر: فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله وزوال فعل الحسنات. وإن كان المنكر أغلب نهي عنه؛ وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف؛ ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرا بمنكر وسعيا في معصية الله ورسوله. وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما ولم ينه عنهما. فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين؛ وذلك في الأمور المعينة الواقعة. وأما من جهة النوع فيؤمر بالمعروف مطلقا، وينهى عن المنكر مطلقا. وفي الفاعل الواحد والطائفة الواحدة يؤمر بمعروفها وينهى عن منكرها، ويحمد محمودها ويذم مذمومها؛ بحيث لا يتضمن الأمر بمعروف فوات أكثر منه أو حصول منكر فوقه، ولا يتضمن النهي عن المنكر حصول أنكر منه، أو فوات معروف أرجح منه. وإذا اشتبه الأمر استبان المؤمن حتى يتبين له الحق، فلا يقدم على الطاعة إلا بعلم ونية؛ وإذا تركها كان عاصيا، فترك الأمر الواجب معصية، وفعل ما نهي عنه من الأمر معصية. وهذا باب واسع، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ومن هذا الباب إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي وأمثاله من أئمة النفاق والفجور لما لهم من أعوان، فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم، وبنفور الناس إذا سمعوا أن محمدا يقتل أصحابه؛ ولهذا لما خاطب الناس في قصة الإفك بما خاطبهم به واعتذر منه، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه: حمي له سعد بن عبادة مع حسن إيمانه. وأصل هذا أن تكون محبة الإنسان للمعروف وبغضه للمنكر، وإرادته لهذا، وكراهته لهذا: موافقة لحب الله وبغضه، وإرادته وكراهته الشرعيين. وأن يكون فعله للمحبوب ودفعه للمكروه بحسب قوته وقدرته، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) . فأما حب القلب وبغضه وإرادته وكراهيته فينبغي أن تكون كاملة جازمة؛ لا يوجب نقص ذلك إلا نقص الإيمان. وأما فعل البدن فهو بحسب قدرته، ومتى كانت إرادة القلب وكراهته كاملة تامة وفعل العبد معها بحسب قدرته: فإنه يعطى ثواب الفاعل الكامل، كما قد بيناه في غير هذا الموضع، فإن من الناس من يكون حبه وبغضه وإرادته وكراهته بحسب محبة نفسه وبغضها؛ لا بحسب محبة الله ورسوله وبغض الله ورسوله، وهذا من نوع الهوى؛ فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] (سورة القصص: من الآية 50) ؛ فإن أصل الهوى محبة النفس، ويتبع ذلك بغضها، ونفس الهوى - وهو الحب والبغض الذي في النفس - لا يلام عليه؛ فإن ذلك قد لا يملك، وإنما يلام على اتباعه؛ كما قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] (سورة ص: من الآية 26) . وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] (سورة القصص: من الآية 50) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضا. وثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه» . والحب والبغض يتبعه ذوق عند وجود المحبوب والمبغض، ووجد وإرادة، وغير ذلك، فمن اتبع ذلك بغير أمر الله ورسوله فهو ممن اتبع هواه بغير هدى من الله؛ بل قد يصعد به الأمر إلى أن يتخذ إلهه هواه، واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، فإن الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] (سورة القصص: من الآية 50) . وقال تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28] (سورة الروم: من الآية 28) . إلى أن قال: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الروم: 29] (سورة الروم: من الآية 29) . وقال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام: من الآية 119) . وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] (سورة المائدة: من الآية 77) . وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120] (سورة البقرة: آية 120) . وقال تعالى في الآية الأخرى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145] (سورة البقرة: من الآية 145) . وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] (سورة المائدة: من الآية 49) ولهذا كان من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد يجعل من أهل الأهواء؛ كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء؛ وذلك أن كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه؛ والعلم بالدين لا يكون إلا بهدي الله الذي بعث به رسوله؛ ولهذا قال تعالى في موضع: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119] (سورة الأنعام: من الآية 119) . وقال في موضع آخر: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص: 50] (سورة القصص: من الآية 50) . فالواجب على العبد أن ينظر في نفس حبه وبغضه، ومقدار حبه وبغضه: هل هو موافق لأمر الله ورسوله؟ وهو هدي الله الذي أنزله على رسوله؛ بحيث يكون مأمورا بذلك الحب والبغض، لا يكون متقدما فيه بين يدي الله ورسوله؛ فإنه قد قال: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] (سورة الحجرات: من الآية 1) . ومن أحب أو أبغض قبل أن يأمره الله ورسوله ففيه نوع من التقدم بين يدي الله ورسوله. ومجرد الحب والبغض هوى؛ لكن المحرم اتباع حبه وبغضه بغير هدي من الله؛ ولهذا قال: {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ص: 26] (سورة ص: من الآية 26) . فأخبر أن من اتبع هواه أضله ذلك عن سبيل الله، وهو هداه الذي بعث به رسوله، وهو السبيل إليه. وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها، وقد قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (سورة الملك: من الآية 2) . وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أخلصه وأصوبه. فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة، فالعمل الصالح لا بد أن يراد به وجه الله تعالى؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وحده: كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا بريء منه، وهو كله للذي أشرك» . وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام، وهو دين الله الذي بعث به جميع رسله، وله خلق الخلق، وهو حقه على عباده: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحا، وهو ما أمر الله به ورسوله؛ وهو الطاعة، فكل طاعة عمل صالح، وكل عمل صالح طاعة، وهو العمل المشروع المسنون؛ إذ المشروع المسنون هو المأمور به أمر إيجاب أو استحباب، وهو العمل الصالح، وهو الحسن، وهو البر وهو الخير؛ وضده المعصية والعمل الفاسد، والسيئة، والفجور، والظلم. ٢



٣ الشروط الواجب توافرها في الامر والناهي ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين: النية والحركة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء حارث وهمام» فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية؛ لكن النية المحمودة التي يتقبلها الله ويثيب عليها: أن يراد الله بذلك العمل. والعمل المحمود الصالح، وهو المأمور به ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وإذا كان هذا حد كل عمل صالح؛ فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب أن يكون هكذا في حق نفسه، ولا يكون عمله صالحا إن لم يكن بعلم وفقه، وكما قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، وكما في حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: «العلم إمام العمل والعمل تابعه» وهذا ظاهر. فإن القصد والعمل إن لم يكن بعلم كان جهلا وضلالا واتباعا للهوى كما تقدم، وهذا هو الفرق بين أهل الجاهلية وأهل الإسلام، فلا بد من العلم بالمعروف والمنكر والتمييز بينهما. ولا بد من العلم بحال المأمور والمنهي، ومن الصلاح أن يأتي بالأمر والنهي بالصراط المستقيم، وهو أقرب الطرق إلى حصول المقصود. ولا بد في ذلك من الرفق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه» وقال: «إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، وبعطي عليه ما لا يعطي على العنف» ولا بد أيضا أن يكون حليما صبورا على الأذى: فإنه لا بد أن يحصل له أذى؛ فإن لم يحلم ويصبر كان ما يفسد أكثر مما يصلح: كما قال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17] (سورة لقمان: من الآية 17) . ولهذا أمر الله الرسل - وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - بالصبر، كقوله لخاتم الرسل؛ بل ذلك مقرون بتبليغ الرسالة؛ فإنه أول ما أرسل أنزلت عليه سورة: " يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ " بعد أن أنزلت عليه سورة: " اقرأ " التي بها نبئ فقال: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ - وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ - وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ - وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ - وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ - وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 1 - 7] (سورة المدثر: الآيات 1-7) . فافتتح آيات الإرسال إلى الخلق بالأمر بالنذارة، وختمها بالأمر بالصبر، ونفس الإنذار أمر بالمعروف ونهي عن المنكر؛ فعلم أنه يجب بعد ذلك الصبر، وقال: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] (سورة الطور: من الآية 48) . وقال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10] (سورة المزمل: آية 10) . {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] (سورة الأحقاف: من الآية 35) . {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] (سورة القلم: من الآية 48) {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127] (سورة النحل: من الآية 127) . {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] (سورة هود: آية 115) . فلا بد من هذه الثلاثة: العلم، والرفق، والصبر. العلم قبل الأمر والنهي، والرفق معه، والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة مستصحبا في هذه الأحوال؛ وهذا كما جاء في الأثر عن بعض السلف ورووه مرفوعا، ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد: " لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه؛ حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه ". وليعلم أن الأمر بهذه الخصال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما يوجب صعوبة على كثير من النفوس، فيظن أنه بذلك يسقط عنه، فيدعه، وذلك مما يضره أكثر مما يضره الأمر بدون هذه الخصال أو أقل؛ فإن ترك الأمر الواجب معصية، فالمنتقل من معصية إلى معصية أكبر منها كالمستجير من الرمضاء بالنار، والمنتقل من معصية إلى معصية كالمنتقل من دين باطل إلى دين باطل، وقد يكون الثاني شرا من الأول، وقد يكون دونه، وقد يكونان سواء، فهكذا تجد المقصر في الأمر والنهي والمعتدي فيه قد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكون ذنب هذا أعظم، وقد يكونان سواء. ٣.



٤. المعاصي سبب المصايب ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا وبما شهد به في كتابه: أن المعاصي سبب المصائب، فسيئات المصائب والجزاء من سيئات الأعمال، وأن الطاعة سبب النعمة، فإحسان العمل سبب لإحسان الله، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] (سورة الشورى: آية 30) . وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79] (سورة النساء: من الآية 79) . وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] (سورة آل عمران: من الآية 155) . وقال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] (سورة آل عمران: من الآية 165) . وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] (سورة الشورى: آية 34) . وقال: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] (سورة الشورى: من الآية 48) . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] (سورة الأنفال: آية 33) . وقد أخبر سبحانه بما عاقب به أهل السيئات من الأمم، كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وقوم فرعون، في الدنيا. وأخبر بما يعاقبهم به في الآخرة، ولهذا قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ - مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ - وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ - يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 30 - 33] (سورة غافر: من الآية 30، والآيات 31-33) . وقال تعالى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} [القلم: 33] (سورة القلم: من الآية 33) . وقال: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة: 101] (سورة التوبة: من الآية 101) . وقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] (سورة السجدة: آية 21) . وقال: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] (سورة الدخان: آية 10) . إلى قوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] (سورة الدخان: آية 16) . ولهذا يذكر الله في عامة سور الإنذار ما عاقب به أهل السيئات في الدنيا وما أعده لهم في الآخرة، وقد يذكر في السورة وعد الآخرة فقط، إذ عذاب الآخرة أعظم، وثوابها أعظم، وهي دار القرار، وإنما يذكر ما يذكره من الثواب والعذاب في الدنيا تبعا، كقوله في قصة يوسف: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يوسف: 56 - 57] (سورة يوسف: الآيتان 56، 57) . وقال: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 148] (سورة آل عمران: من الآية 148) . وقال: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ - الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41 - 42] (سورة النحل: الآيتان 41، 42) . وقال عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] (سورة العنكبوت: من الآية 27) . وأما ذكره لعقوبة الدنيا والآخرة ففي سورة: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا - وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات: 1 - 2] ثم قال: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ - تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 6 - 7] (سورة النازعات: الآيتان 6، 7) . فذكر القيامة مطلقا، ثم قال: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى - إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى - اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 15 - 17] (سورة النازعات: الآيات 15-17) . إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26] (سورة النازعات: آية 26) ، ثم ذكر المبدأ والمعاد مفصلا فقال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات: 27] (سورة النازعات: آية 27) . إلى قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 34] (سورة النازعات: آية 34) . إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى - وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا - فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 41] (سورة النازعات: الآيات 37 - 41) إلى آخر السورة. وكذلك في " المزمل " ذكر قوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا - إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا - وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 11 - 13] (سورة المزمل: الآيات 11-13) إلى قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا - فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15 - 16] (سورة المزمل: من الآية 15، وآية 16) . وكذلك في: " سورة الحاقة ". ذكر قصص الأمم، كثمود وعاد وفرعون ثم قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ - وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 13 - 14] (سورة الحاقة: الآيتان 13، 14) . إلى تمام ما ذكره من أمر الجنة والنار. وكذلك في سورة " القلم ". ذكر قصة أهل البستان الذين منعوا حق أموالهم وما عاقبهم به، ثم قال: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33] (سورة القلم: آية 33) . وكذلك في: " سورة التغابن ". قال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ - ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن: 5 - 6] (سورة التغابن: الآيتان 5، 6) . ثم قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] (سورة التغابن: من الآية 7) . وكذلك في سورة: " ق " ذكر حال المخالفين للرسل؛ وذكر الوعد والوعيد في الآخرة. وكذلك في " سورة القمر " ذكر هذا وهذا. وكذلك في " الحواميم " مثل حم غافر، والسجدة، والزخرف، والدخان، وغير ذلك، إلى غير ذلك مما لا يحصى. فإن التوحيد والوعد والوعيد هو أول ما أنزل، كما في صحيح البخاري عن يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين إذ جاءها عراقي فقال: أي الكفن خير؟ قالت: ويحك! وما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك. قالت: لم؟ قال: لعلي أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف، قالت: وما يضرك أية قرأت قبل، إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] (سورة القمر: آية 46) . وما نزلت: " سورة البقرة ". و " النساء ". إلا وأنا عنده، قال: فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور. وإذا كان الكفر والفسوق والعصيان سبب الشر والعدوان فقد يذنب الرجل أو الطائفة ويسكت آخرون عن الأمر والنهي، فيكون ذلك من ذنوبهم، وينكر عليهم آخرون إنكارا منهيا عنه فيكون ذلك من ذنوبهم، فيحصل التفرق والاختلاف والشر، وهذا من أعظم الفتن والشرور قديما وحديثا، إذ الإنسان ظلوم جهول، والظلم والجهل أنواع، فيكون ظلم الأول وجهله من نوع، وظلم كل من الثاني والثالث وجهلهما من نوع آخر. ومن تدبر الفتن الواقعة رأى سببها ذلك، ورأى أن ما وقع بين أمراء الأمة وعلمائها ومن دخل في ذلك من ملوكها ومشايخها، ومن تبعهم من العامة من الفتن: هذا أصلها، يدخل في ذلك أسباب الضلال والغي: التي هي الأهواء الدينية والشهوانية، وهي البدع في الدين والفجور في الدنيا، وذلك أن أسباب الضلال والغي البدع في الدين، والفجور في الدنيا، وهي مشتركة: تعم بني آدم، لما فيهم من الظلم والجهل، فبذنب بعض الناس يظلم نفسه وغيره، كالزنى بلواط وغيره، أو شرب خمر، أو ظلم في المال بخيانة أو سرقة أو غصب، أو نحو ذلك. ومعلوم أن هذه المعاصي وإن كانت مستقبحة مذمومة في العقل والدين فهي مشتهاة أيضا، ومن شأن النفوس أنها لا تحب اختصاص غيرها بها، لكن تريد أن يحصل لها ما حصل له، وهذا هو الغبطة التي هي أدنى نوعي الحسد، فهي تريد الاستعلاء على الغير والاستئثار دونه، أو تحسده وتتمنى زوال النعمة عنه وإن لم يحصل، ففيها من إرادة العلو والفساد والاستكبار والحسد ما مقتضاه أنها تختص عن غيرها بالشهوات؛ فكيف إذا رأت الغير قد استأثر عليها بذلك واختص بها دونها؟ فالمعتدل منهم في ذلك الذي يحب الاشتراك والتساوي، وأما الآخر فظلوم حسود. وهذان يقعان في الأمور المباحة والأمور المحرمة لحق الله، فما كان جنسه مباحا من أكل وشرب ونكاح ولباس وركوب وأموال: إذا وقع فيها الاختصاص حصل الظلم، والبخل والحسد، وأصلهما الشح، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إياكم والشح! فإنه أهلك من كان قبلكم: أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا» ولهذا قال الله تعالى في وصف الأنصار الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل المهاجرين: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] (سورة الحشر: من الآية 9) . أي: لا يجدون الحسد مما أوتي إخوانهم من المهاجرين: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] (سورة الحشر: من الآية 9) . ثم قال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] (سورة الحشر: من الآية 9) . ورؤي عبد الرحمن بن عوف يطوف بالبيت ويقول: رب قني شح نفسي! رب قني شح نفسي! فقيل له في ذلك فقال: إذا وقيت شح نفسي فقد وقيت البخل والظلم والقطيعة، أو كما قال. فهذا الشح الذي هو شدة حرص النفس يوجب البخل بمنع ما هو عليه، والظلم بأخذ مال الغير، ويوجب قطيعة الرحم، ويوجب الحسد، وهو كراهة ما اختص به الغير، والحسد فيه بخل وظلم، فإنه بخل بما أعطيه غيره، وظلمه بطلب زوال ذلك عنه. فإذا كان هذا في جنس الشهوات المباحة، فكيف بالمحرمة، كالزنى وشرب الخمر ونحو ذلك؛ وإذا وقع فيها اختصاص فإنه يصير فيها نوعان: أحدهما: بغضها لما في ذلك من الاختصاص والظلم، كما يقع في الأمور المباحة الجنس. والثاني: بغضها لما في ذلك من حق الله. ٤.


٥.. اقسام الذنوب ولهذا كانت الذنوب ثلاثة أقسام: أحدها: ما فيها ظلم للناس، كالظلم بأخذ الأموال ومنع الحقوق، والحسد ونحو ذلك. والثاني: ما فيه ظلم للنفس فقط، كشرب الخمر والزنى، إذا لم يتعد ضررهما. والثالث: ما يجتمع فيه الأمران، مثل أن يأخذ المتولي أموال الناس يزني بها ويشرب بها الخمر، ومثل أن يزني بمن يرفعه على الناس بذلك السبب ويضرهم. كما يقع ممن يحب بعض النساء والصبيان، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] (سورة الأعراف: آية 33) . وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم» فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة، فالنفس فيها داعي الظلم لغيرها بالعلو عليه والحسد له، والتعدي عليه في حقه. وداعي الظلم لنفسها بتناول الشهوات القبيحة كالزنى وأكل الخبائث، فهي قد تظلم من لا يظلمها، وتؤثر هذه الشهوات وإن لم تفعلها، فإذا رأت نظراءها قد ظلموا وتناولوا هذه الشهوات صار داعي هذه الشهوات أو الظلم فيها أعظم بكثير، وقد تصبر، ويهيج ذلك لها من بغض ذلك الغير وحسده وطلب عقابه وزوال الخير عنه ما لم يكن فيها قبل ذلك، ولها حجة عند نفسها من جهة العقل والدين، بكون ذلك الغير قد ظلم نفسه والمسلمين، وأن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر واجب، والجهاد على ذلك من الدين. والناس هنا ثلاثة أقسام: قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم، فلا يرضون إلا بما يعطونه، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه، فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه، وصار الأمر الذي كان عنده منكرا - ينهى عنه ويعاقب عليه، ويذم صاحبه ويغضب عليه - مرضيا عنده، وصار فاعلا له وشريكا فيه، ومعاونا عليه، ومعاديا لمن نهى عنه وينكر عليه، وهذا غالب في بني آدم، يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه، وسببه: أن الإنسان ظلوم جهول، فلذلك لا يعدل، بل ربما كان ظالما في الحالين، يرى قوما ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم، فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه، وكذلك تراهم ينكرون على من يشرب الخمر ويزني ويسمع الملاهي، حتى يدخلوا أحدهم معهم في ذلك، أو يرضوه ببعض ذلك، فتراه قد صار عونا لهم، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره. وقوم يقومون ديانة صحيحة، يكونون في ذلك مخلصين لله، مصلحين فيما عملوه، ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهم من خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. وقوم يجتمع فيهم هذا وهذا، وهم غالب المؤمنين، فمن فيه دين وله شهوة تجتمع في قلوبهم إرادة الطاعة وإرادة المعصية، وربما غلب هذا تارة وهذا تارة. ٥.


٦ اقسام الانفس وهذه القسمة الثلاثية كما قيل: الأنفس ثلاث: أمارة، ومطمئنة، ولوامة، فالأولون هم أهل الأنفس الأمارة التي تأمره بالسوء، والأوسطون هم أهل النفوس المطمئنة التي قيل فيها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ - ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً - فَادْخُلِي فِي عِبَادِي - وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] (سورة الفجر: الآيات 27 - 30) . والآخرون هم أهل النفوس اللوامة التي تفعل الذنب ثم تلوم عليه، وتتلون: تارة كذا، وتارة كذا، وتخلط عملا صالحا وآخر سيئا. ولهذا لما كان الناس في زمن أبي بكر وعمر اللذين أمر المسلمون بالاقتداء بهما كما قال صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» أقرب عهدا بالرسالة وأعظم إيمانا وصلاحا، وأئمتهم أقوم بالواجب وأثبت في الطمأنينة: لم تقع فتنة، إذ كانوا في حكم القسم الوسط. ولما كان في آخر خلافة عثمان وخلافة علي كثر القسم الثالث، فصار فيهم شهوة وشبهة مع الإيمان والدين، وصار ذلك في بعض الولاة وبعض الرعايا، ثم كثر ذلك بعد، فنشأت الفتنة التي سببها ما تقدم من عدم تمحيص التقوى والطاعة في الطرفين، واختلاطهما بنوع من الهوى والمعصية في الطرفين، وكل منهما متأول أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأنه مع الحق والعدل، ومع هذا التأويل نوع من الهوى، ففيه نوع من الظن وما تهوى الأنفس، وإن كانت إحدى الطائفتين أولى بالحق من الأخرى. فلهذا يجب على المؤمن أن يستعين بالله، ويتوكل عليه في أن يقيم قلبه ولا يزيغه، ويثبته على الهدى والتقوى، ولا يتبع الهوى، كما قال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} [الشورى: 15] (سورة الشورى: من الآية 15) . وهذا أيضا حال الأمة فيما تفرقت فيه واختلفت في المقالات والعبادات، وهذه الأمور مما تعظم بها المحنة على المؤمنين، فإنهم يحتاجون إلى شيئين: إلى دفع الفتنة التي ابتلي بها نظراؤهم من فتنة الدين والدنيا عن نفوسهم مع قيام المقتضي لها، فإن معهم نفوسا وشياطين كما مع غيرهم، فمع وجود ذلك من نظرائهم يقوى المقتضي عندهم، كما هو الواقع، فيقوى الداعي الذي في نفس الإنسان وشيطانهم، وما يحصل من الداعي بفعل الغير والنظير، فكم ممن لم يرد خيرا ولا شرا حتى رأى غيره - لا سيما إن كان نظيره - يفعله ففعله! فإن الناس كأسراب القطا، مجبولون على تشبه بعضهم ببعض. ولهذا كان المبتدئ بالخير والشر: له مثل من تبعه من الأجر والوزر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» وذلك لاشتراكهم في الحقيقة، وأن حكم الشيء حكم نظيره، وشبه الشيء منجذب إليه. فإذا كان هذان داعيين قويين: فكيف إذا انضم إليهما داعيان آخران؟ وذلك أن كثيرا من أهل المنكر يحبون من يوافقهم على ما هم فيه، ويبغضون من لا يوافقهم، وهذا ظاهر في الديانات الفاسدة من موالاة كل قوم لموافقيهم، ومعاداتهم لمخالفيهم. وكذلك في أمور الدنيا والشهوات كثيرا ما يختارون ويؤثرون من يشاركهم: إما للمعاونة على ذلك، كما في المتغلبين من أهل الرياسات وقطاع الطريق ونحوهم، وإما بالموافقة، كما في المجتمعين على شرب الخمر، فإنهم يختارون أن يشرب كل من حضر عندهم، وإما لكراهتهم امتيازه عنهم بالخير: إما حسدا له على ذلك، لئلا يعلو عليهم بذلك ويحمد دونهم، وإما لئلا يكون له عليهم حجة، وإما لخوفهم من معاقبة لهم بنفسه، أو بمن يرفع ذلك إليهم، ولئلا يكونوا تحت منته وخطره ونحو ذلك من الأسباب، قال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] (سورة البقرة: من الآية 109) . وقال تعالى في المنافقين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89] (سورة النساء: من الآية 89) . وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ودت الزانية لو زنى النساء كلهن. والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور، كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد، وقد يختارونها في النوع، كالزاني الذي يود أن غيره يزني، والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا، لكن في غير العين التي زنى بها أو سرقها. وأما الداعي الثاني فقد يأمرون الشخص بمشاركتهم فيما هم عليه من المنكر، فإن شاركهم وإلا عادوه وآذوه على وجه ينتهي إلى حد الإكراه، أو لا ينتهي إلى حد الإكراه، ثم إن هؤلاء الذين يختارون مشاركة الغير لهم في قبيح فعلهم أو يأمرونه بذلك ويستعينون به على ما يريدونه: متى شاركهم وعاونهم وأطاعهم انتقصوه واستخفوا به، وجعلوا ذلك حجة عليه في أمور أخرى، وإن لم يشاركهم عادوه وآذوه، وهذه حال غالب الظالمين القادرين. وهذا الموجود في المنكر نظيره في المعروف وأبلغ منه، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165] (سورة البقرة: من الآية 165) . فإن داعي الخير أقوى، فإن الإنسان فيه داع يدعوه إلى الإيمان والعلم، والصدق والعدل، وأداء الأمانة، فإذا وجد من يعمل مثل ذلك صار له داع آخر، لا سيما إذا كان نظيره، لا سيما مع المنافسة، وهذا محمود حسن، فإن وجد من يحب موافقته على ذلك ومشاركته له من المؤمنين والصالحين ويبغضه إذا لم يفعل، صار له داع ثالث، فإذا أمروه بذلك ووالوه على ذلك وعادوه وعاقبوه على تركه صار له داع رابع. ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده، فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفوسه، وذلك بشيئين: بفعل الحسنات، وترك السيئات، مع وجود ما ينفي الحسنات ويقتضي السيئات، وهذه أربعة أنواع: ويؤمر أيضا بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ - إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3] (سورة العصر: الآيات 1-3) . وروي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لو فكر الناس كلهم في سورة: " والعصر ". لكفتهم. وهو كما قال، فإن الله تعالى أخبر أن جميع الناس خاسرون إلا من كان في نفسه مؤمنا صالحا، ومع غيره موصيا بالحق موصيا بالصبر، وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سببا لعلو الدرجة وعظيم الأجر، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: «أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة» وحينئذ فيحتاج من الصبر مالا يحتاج إليه غيره، وذلك هو سبب الإمامة في الدين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] (سورة السجدة: آية 24) . فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور به وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر عن البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر. ولا يمكن للعبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن به ويتنعم به ويغتذي به، وهو اليقين، كما في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يا أيها الناس، سلوا الله اليقين والعافية، فإنه لم يعط أحد بعد اليقين خيرا من العافية، فسلوهما الله» وكذلك إذا أمر غيره بحسن أو أحب موافقته على ذلك، أو نهى غيره عن شيء، فيحتاج أن يحسن إلى ذلك الغير إحسانا يحصل به مقصوده، من حصول المحبوب واندفاع المكروه، فإن النفوس لا تصبر على المر إلا بنوع من الحلو، لا يمكن غير ذلك، ولهذا أمر الله تعالى بتأليف القلوب، حتى جعل للمؤلفة قلوبهم نصيبا في الصدقات، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (سورة الأعراف: آية 199) . وقال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] (سورة البلد: من الآية 17) . فلا بد أن يصبر وأن يرحم، وهذا هو الشجاعة والكرم. ولهذا يقرن الله بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق، وبينهما وبين الصبر تارة، ولا بد من الثلاثة: الصلاة، والزكاة، والصبر، لا تقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك، في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لا سيما كلما قويت الفتنة والمحنة، فالحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا به. ٦


٧ ذم البخل والجبن ولهذا جميعهم يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم، وكذلك يتذامون بالبخل والجبن، والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقا، كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل، وذم الكذب والظلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأله الأعراب، حتى اضطروه إلى سمرة فتعلقت بردائه، فالتفت إليهم وقال: «والذي نفسي بيده لو أن عندي عدد هذه العضاه نعما لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلا ولا جبانا ولا كذوبا» لكن يتنوع ذلك بتنوع المقاصد والصفات، فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. ولهذا جاء الكتاب والسنة بذم البخل والجبن، ومدح الشجاعة والسماحة في سبيله دون ما ليس في سبيله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، «شر ما في المرء شح هالع وجبن خالع» وقال: «من سيدكم يا بني سلمة؛ فقالوا الجد بن قيس على أنا نزنه بالبخل فقال: وأي داء أدوأ من البخل؟» وفي رواية: «إن السيد لا يكون بخيلا بل سيدكم الأبيض الجعد البراء بن معرور» وكذلك في الصحيح قول جابر بن عبد الله لأبي بكر الصديق رضي الله عنهما: إما أن تعطيني وإما أن تبخل عني! فقال تقول: وإما أن تبخل عني! وأي داء أدوأ من البخل؟ فجعل البخل من أعظم الأمراض. وفي صحيح مسلم عن سلمان بن ربيعة قال: قال عمر: قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسما فقلت: يا رسول الله! والله لغير هؤلاء أحق به منهم فقال: «إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش وبين أن يبخلوني، ولست بباخل» يقول: إنهم يسألوني مسألة لا تصلح، فإن أعطيتهم وإلا قالوا: هو بخيل، فقال: خيروني بين أمرين مكروهين لا يتركوني من أحدهما: الإفحاش والتبخيل. والتبخيل أشد، فأدفع الأشد بإعطائهم. والبخل جنس تحته أنواع: كبائر، وغير كبائر، قال تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (سورة آل عمران: من الآية 180) . وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] (سورة النساء: من الآية 36) . إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا - الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء: 36 - 37] (سورة النساء: من الآيتين 36 و 37) . وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] (سورة التوبة: آية 54) . وقال: {فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ - فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 76 - 77] (سورة التوبة: آية 76 ومن الآية 77) . وقال: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد: 38] (سورة محمد: من الآية 38) . وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ - الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ - وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 - 7] (سورة الماعون: الآيات 4-7) . وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 34 - 35] (سورة التوبة: من الآيتين 34، 35) . وما في القرآن من الأمر بالإيتاء والإعطاء وذم من ترك ذلك: كله ذم للبخل، وكذلك ذمه للجبن كثير، مثل قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] (سورة الأنفال: آية 16) . وقوله عن المنافقين: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ - لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} [التوبة: 56 - 57] (سورة التوبة: الآيتان 56، 57) . وقوله: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] (سورة محمد: من الآية 20) . وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77] (سورة النساء: الآية 77) . وما في القرآن من الحض على الجهاد والترغيب فيه وذم الناكلين عنه والتاركين له، كله ذم للجبن، ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم، بين سبحانه أن من تولى عن الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ - إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39] (سورة التوبة: الآيتان 38، 39) . وقال تعالى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] (سورة محمد: آية 38) . وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضل السابقين، فقال: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (سورة الحديد: من الآية 10) . وقد ذكر الجهاد بالنفوس والمال في سبيله، ومدحه في غير آية من كتابه، وذلك هو الشجاعة والسماحة في طاعته سبحانه، فقال: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] (سورة البقرة: من الآية 249) . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ - وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45 - 46] (سورة الأنفال: الآيتان 45، 46) . والشجاعة ليست هي قوة البدن، وقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتال مداره على قوة البدن وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب وخبرته به، والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه، ولا يميز بين المحمود والمذموم، ولهذا كان القوي الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، حتى يفعل ما يصلح، فأما المغلوب حين غضبه فليس بشجاع ولا شديد. ٧



٨.. الصبر على المصايب وقد تقدم أن جماع ذلك هو الصبر، فإنه لا بد منه. والصبر صبران: صبر عند الغضب، وصبر عند المصيبة، كما قال الحسن: ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب، وجرعة صبر عند المصيبة، وذلك لأن أصل ذلك هو الصبر على المؤلم وهذا هو الشجاع الشديد الذي يصبر على المؤلم. والمؤلم إن كان مما يمكن دفعه أثار الغضب، وإن كان مما لا يمكن دفعه أثار الحزن، ولهذا يحمر الوجه عند الغضب لثوران الدم عند استشعار القدرة، ويصفر عند الحزن لغور الدم عند استشعار العجز، ولهذا جمع النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعدون الرقوب فيكم؟ قالوا: الرقوب الذي لا يولد له، قال: ليس ذلك بالرقوب! ولكن الرقوب الرجل الذي لم يقدم من ولده شيئا، ثم قال: ما تعدون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال فقال: ليس بذلك ولكن الصرعة الذي يملك نفسه عند الغضب» فذكر ما يتضمن الصبر عند المصيبة والصبر عند الغضب، قال الله تعالى في المصيبة: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ - الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155 - 156] (سورة البقرة: من الآية 155، وآية 156) . وقال الله تعالى في الغضب: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] (سورة فصلت: آية 35) . وهذا الجمع بين صبر المصيبة وصبر الغضب نظير الجمع بين صبر النعمة وصبر المصيبة كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11] (سورة هود: الآيات 9 - 11) . وقال: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] (سورة الحديد: من الآية 23) . وبهذا وصف كعب بن زهير من وصفه من الصحابة المهاجرين حيث قال: لا يفرحون إذا نالت سيوفهم قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا وكذلك قال حسان بن ثابت: لا فخر إن هم أصابوا من عدوهم وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع وقال بعض العرب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر. ولما كان الشيطان يدعو الناس عند هذين النوعين إلى تعدي الحدود بقلوبهم وأصواتهم وأيديهم، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال لما قيل له وقد بكى لما رأى إبراهيم في النزع: أتبكي؟ أولم تنه عن البكاء؟ فقال: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: لطم خدود وشق جيوب ودعاء بدعوى الجاهلية» فجمع بين الصوتين. وأما نهيه عن ذلك في المصائب فمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى جاهلية» وقال: «أنا بريء من الحالقة والصالقة والشاقة» وقال: «ما كان من العين والقلب فمن الله، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان» وقال: «إن الله لا يؤاخذ على دمع العين ولا حزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم - وأشار إلى لسانه» وقال: «من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه» واشترط على النساء في البيعة أن لا ينحن، وقال: «إن النائحة إذا لم تتب قبل موتها فإنها تلبس يوم القيامة درعا من جرب وسربالا من قطران» وقال في الغلبة والمصائب والفرح: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» وقال: «إن أعف الناس قتلة أهل الإيمان» وقال: «لا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليدا» إلى غير ذلك مما أمر به في الجهاد من العدل وترك العدوان، اتباعا لقوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: من الآية 8) . وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (سورة البقرة: آية 190) . ونهى عن لباس الحرير وتختم الذهب، والشرب في آنية الذهب والفضة، وإطالة الثياب، إلى غير ذلك من أنواع السرف والخيلاء في النعم، وذم الذين يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف، وجعل فيهم الخسف والمسخ، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] (سورة النساء: من الآية 36) . وقال عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76] (سورة القصص: من الآية 76) . وهذه الأمور الثلاثة مع الصبر عن الاعتداء في الشهوة هي جوامع هذا الباب. وذلك أن الإنسان بين ما يحبه ويشتهيه، وبين ما يبغضه ويكرهه، فهو يطلب الأول بمحبته وشهوته، ويدفع الثاني ببغضه ونفرته، وإذا حصل الأول أو اندفع الثاني أوجب له فرحا وسرورا، وإن حصل الثاني أو اندفع الأول حصل له حزن، فهو محتاج عند المحبة والشهوة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الغضب والنفرة أن يصبر عن عدوانهما، وعند الفرح أن يصبر عن عدوانه، وعند المصيبة أن يصبر عن الجزع منها، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الأحمقين الفاجرين: الصوت الذي يوجب الاعتداء في الفرح حتى يصير الإنسان فرحا فخورا، والصوت الذي يوجب الجزع. وأما الصوت الذي يثير الغضب لله، كالأصوات التي تقال في الجهاد من الأشعار المنشدة، فتلك لم تكن بآلات، وكذلك أصوات الشهوة في الفرح، فرخص منها فيما وردت به السنة من الضرب بالدف في الأعراس والأفراح للنساء والصبيان. وعامة الأشعار التي تنشد بالأصوات لتحريك النفوس هي من هذه الأقسام الأربعة، وهي التشبيب، وأشعار الغضب والحمية، وهي الحماسة والهجاء، وأشعار المصائب كالمراثي، وأشعار النعم والفرح، وهي المدائح. والشعراء جرت عادتهم أن يمشوا مع الطبع، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ - وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 225 - 226] (سورة الشعراء: الآيتان 225، 226) . ولهذا أخبر أنهم يتبعهم الغاوون، والغاوي: هو الذي يتبع هواه بغير علم، وهذا هو الغي، وهو خلاف الرشد، كما أن الضال الذي لا يعلم مصلحته هو خلاف المهتدي، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى - مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 1 - 2] (سورة النجم: الآيتان 1، 2) . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» فلهذا تجدهم يمدحون جنس الشجاعة وجنس السماحة، إذ كان عدم هذين مذموما على الإطلاق، وأما وجودهما، فبه تحصل مقاصد النفوس على الإطلاق، لكن العاقبة في ذلك للمتقين، وأما غير المتقين فلهم عاجلة لا عاقبة، والعاقبة وإن كانت في الآخرة فتكون في الدنيا أيضا، كما قال تعالى لما ذكر قصة نوح ونجاته بالسفينة: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] (سورة هود: آية 48) . إلى قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] (سورة هود: من الآية 49) . وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] (سورة البقرة: من الآية 194) . والفرقان: أن يحمد من ذلك ما حمده الله ورسوله، فإن الله تعالى هو الذي حمده زين، وذمه شين، دون غيره من الشعراء والخطباء وغيرهم، ولهذا لما قال القائل من بني تميم للنبي صلى الله عليه وسلم: إن حمدي زين وذمي شين! قال له: «ذاك الله» ٨



٩ اصناف الناس في الشجاعة والله سبحانه حمد الشجاعة والسماحة في سبيله، كما في الصحيح عن أبي موسى قال: قيل: «يا رسول الله! الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» وقد قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (سورة الأنفال: من الآية 39) . وذلك أن هذا هو المقصود الذي خلق الخلق له، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] (سورة الذاريات: آية 56) . فكل ما كان لأجل الغاية التي خلق لها الخلق كان محمودا عند الله، وهو الذي يبقى لصاحبه، وهذه الأعمال الصالحات. ولهذا كان الناس أربعة أصناف: من يعمل لله بشجاعة وسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة. ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة فهذا ينتفع بذلك في الدنيا وليس له في الآخرة من خلاق، ومن يعمل لله لكن لا بشجاعة ولا سماحة، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك، ومن لا يعمل لله وليس فيه شجاعة ولا سماحة، فهذا ليس له دنيا ولا آخرة. فهذه الأخلاق والأفعال يحتاج إليها المؤمن عموما، وخصوصا في أوقات المحن والفتن الشديدة، فإنهم يحتاجون إلى صلاح نفوسهم ودفع الذنوب عن نفوسهم عند المقتضي للفتنة عندهم، ويحتاجون أيضا إلى أمر غيرهم ونهيه بحسب قدرتهم، وكل من هذين الأمرين فيه من الصعوبة ما فيه، وإن كان يسيرا على من يسره الله عليه. وهذا لأن الله أمر المؤمنين بالإيمان والعمل الصالح، وأمرهم بدعوة الناس وجهادهم على الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40 - 41] (سورة الحج: من الآية 40، وآية 41) . وكما قال: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] (سورة غافر: آية 51) وكما قال: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] (سورة المجادلة: آية 21) . وكما قال: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173] (سورة الصافات: آية 173) . ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة، صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة، كما قال عن المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) . وقد ذكر في التفسير أنها نزلت في الجد بن قيس لما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الروم - وأظنه قال: «هل لك في نساء بني الأصفر» ؟ - فقال يا رسول الله: إني رجل لا أصبر على النساء، وإني أخاف الفتنة بنساء بني الأصفر، فأذن لي ولا تفتني، وهذا الجد هو الذي تخلف عن بيعة الرضوان تحت الشجرة، واستتر بجمل أحمر، وجاء فيه الحديث: «إن كلهم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر» فأنزل الله تعالى فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) . يقول: إنه طلب القعود ليسلم من فتنة النساء، فلا يفتن بهن، فيحتاج إلى الاحتراز من المحظور ومجاهدة نفسه عنه فيتعذب بذلك أو يواقعه فيأثم، فإن من رأى الصور الجميلة وأحبها فإن لم يتمكن منها إما لتحريم الشارع وإما للعجز عنها يعذب قلبه، وإن قدر عليها وفعل المحظور هلك، وفي الحلال من ذلك من معالجة النساء ما فيه بلاء، فهذا وجه قوله: {وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) قال الله تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (سورة التوبة: من الآية 49) . يقول نفس إعراضه عن الجهاد الواجب ونكوله عنه وضعف إيمانه ومرض قلبه الذي زين له ترك الجهاد: فتنة عظيمة قد سقط فيها، فكيف يطلب التخلص من فتنة صغيرة لم تصبه بوقوعه في فتنة عظيمة قد أصابته؛ والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] (سورة الأنفال: من الآية 39) . فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلا تكون فتنة: فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركه ما أمر الله به من الجهاد. ٩



١٠ اقسام الناس في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتدبر هذا، فإن هذا مقام خطر، فإن الناس هنا ثلاثة أقسام: قسم يأمرون وينهون ويقاتلون، طلبا لإزالة الفتنة التي زعموا، ويكون فعلهم ذلك أعظم فتنة، كالمقتتلين في الفتنة الواقعة بين الأمة. وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال الذي يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا، وهم قد سقطوا في الفتنة، وهذه الفتنة المذكورة في " سورة براءة " دخل فيها الافتتان بالصور الجميلة، فإنها سبب نزول الآية، وهذه حال كثير من المتدينين، يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا، لئلا يفتنوا بجنس الشهوات، وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه، وإنما الواجب عليهم القيام بالواجب وترك المحظور، وهما متلازمان، وإنما تركوا ذلك لكون نفوسهم لا تطاوعهم إلا على فعلهما جميعا أو تركهما جميعا: مثل كثير ممن يحب الرئاسة أو المال وشهوات الغي، فإنه إذا فعل ما وجب عليه من أمر ونهي وجهاد وإمارة ذلك فلا بد أن يفعل شيئا من المحظورات. فالواجب عليه أن ينظر أغلب الأمرين. فإن كان المأمور أعظم أجرا من ترك ذلك المحظور لم يترك ذلك لما يخاف أن يقترن به ما هو دونه في المفسدة، وإن كان ترك المحظور أعظم أجرا لم يفوت ذلك برجاء ثواب بفعل واجب يكون دون ذلك، فذلك يكون بما يجتمع له من الأمرين من الحسنات والسيئات، فهذا هذا، وتفصيل ذلك يطول. وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، ولا بد أن يأمر وينهى، حتى لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها، إما بمعروف وإما بمنكر، كما قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] (سورة يوسف: من الآية 53) . فإن الأمر هو طلب الفعل وإرادته، والنهي طلب الترك وإرادته، ولا بد لكل حي من إرادة وطلب في نفسه يقتضي بهما فعل نفسه، ويقتضي بهما فعل غيره إذا أمكن ذلك، فإن الإنسان حي يتحرك بإرادته، وبنو آدم لا يعيشون إلا باجتماع بعضهم مع بعض، وإذا اجتمع اثنان فصاعدا فلا بد أن يكون بينهما ائتمار بأمر وتناه عن أمر، ولهذا كان أقل الجماعة في الصلاة اثنين، كما قيل: الاثنان فما فوقهما جماعة، لكن لما كان ذلك اشتراكا في مجرد الصلاة حصل باثنين أحدهما إمام والآخر مأموم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لمالك بن الحويرث وصاحبه: «إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما» وكانا متقاربين في القراءة. وأما الأمور العادية ففي السنن أنه صلى الله عليه وسلم، قال: «لا يحل لثلاثة يكونون في سفر إلا أمروا عليهم أحدهم» وإذا كان الأمر والنهي من لوازم وجود بني آدم، فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وينه عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، وإلا فلا بد أن يأمر وينهى، ويؤمر وينهى، إما بما يضاد ذلك، وإما بما يشترك فيه الحق الذي أنزل الله بالباطل الذي لم ينزله الله. وإذا اتخذ ذلك دينا، كان دينا مبتدعا. وهذا كما أن كل بشر فإنه متحرك بإرادته همام حارث، فمن لم تكن نيته صالحة وعمله عملا صالحا لوجه الله وإلا كان عملا فاسدا أو لغير وجه الله، وهو الباطل، كما قال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] (سورة الليل: آية 4) . وهذه الأعمال كلها باطلة، من جنس أعمال الكفار: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] (سورة محمد: آية 1) . وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] (سورة النور: آية 39) . وقال: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] (سورة الفرقان: آية 23) . وقد أمر الله في كتابه بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر من المؤمنين، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (سورة النساء: آية 59) . ١٠



١١ من هم اولو الامر و (أولو الأمر) أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه للأحمسية لما سألته: ما بقاؤنا على هذا الأمر؟ قال: ما استقامت لكم أئمتكم، ويدخل فيهم الملوك والمشايخ وأهل الديوان، وكل من كان متبوعا فإنه من أولي الأمر، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يأمر بما أمر الله به، وينهى عما نهى عنه، وعلى كل واحد ممن عليه طاعته أن يطيعه في طاعة الله، ولا يطيعه في معصية الله، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين تولى أمر المسلمين وخطبهم، فقال في خطبته: أيها الناس: القوي فيكم الضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم القوي عندي حتى آخذ له الحق، أطيعوني ما أطعت الله! فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. ١١ 



١٢. منزلة الاخلاص في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فصل وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب، والعمل الصالح، في الأمور العلمية والأمور العبادية، ولهذا ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن أول ثلاثة تسجر بهم جهنم: رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن وأقرأه ليقول الناس: هو عالم وقارئ، ورجل قاتل وجاهد ليقول الناس: هو شجاع وجريء، ورجل تصدق وأعطى ليقول الناس: جواد سخي» فإن هؤلاء الثلاثة الذين يريدون الرياء والسمعة هم بإزاء الثلاثة الذين بعد النبيين من الصديقين والشهداء والصالحين، فإن من تعلم العلم الذي بعث الله به رسله وعلمه لوجه الله كان صديقا، ومن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وقتل كان شهيدا، ومن تصدق يبتغي بذلك وجه الله كان صالحا، ولهذا يسأل المفرط في ماله الرجعة وقت الموت، كما قال ابن عباس: من أعطي مالا فلم يحج منه ولم يزك سأل الرجعة وقت الموت. وقرأ قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] (سورة المنافقون: آية 15) فهذه الأمور العلمية الكلامية يحتاج الخبر بها أن يكون ما يخبر به عن الله واليوم الآخر، وما كان وما يكون، حقا صوابا. وما يأمر به وينهى عنه كما جاءت به الرسل عن الله، فهذا هو الصواب الموافق للسنة والشريعة، المتبع لكتاب الله وسنة رسوله. كما أن العبادات التي يتعبد العباد بها إذا كانت مما شرعه الله وأمر الله به ورسوله: كانت حقا صوابا، موافقا لما بعث الله به رسله، وما لم يكن كذلك من القسمين كان من الباطل والبدع المضلة والجهل، وإن كان يسميه من يسميه علوما ومعقولات، وعبادات ومجاهدات، وأذواقا ومقامات. ويحتاج أيضا أن يؤمر بذلك لأمر الله، وينهى عنه لنهي الله، ويخبر بما أخبر الله به، لأنه حق وإيمان وهدى كما أخبرت به الرسل، كما تحتاج العبادة أن يقصد بها وجه الله، فإذا قيل ذلك لاتباع الهوى والحمية، أو لإظهار العلم والفضيلة، أو لطلب السمعة والرياء: كان بمنزلة المقاتل شجاعة وحمية ورياء. ومن هنا يتبين لك ما وقع فيه كثير من أهل العلم والمقال، وأهل العبادة والحال، فكثيرا ما يقول هؤلاء من الأقوال ما هو خلاف الكتاب والسنة ووفاقها، وكثيرا ما يتعبد هؤلاء بعبادات لم يأمر الله بها، بل قد نهى عنها، أو ما يتضمن مشروعا محظورا، وكثيرا ما يقاتل هؤلاء قتالا مخالفا للقتال المأمور به، أو متضمنا لمأمور محظور. ثم كل من الأقسام الثلاثة: المأمور، والمحظور، والمشتمل على الأمرين قد يكون لصاحبه نية حسنة، وقد يكون متبعا لهواه، وقد يجتمع له هذا وهذا. فهذه تسعة أقسام في هذه الأمور، وفي الأموال المنفقة عليها من الأموال السلطانية، الفيء وغيره، والأموال الموقوفة، والأموال الموصى بها والمنذورة، وأنواع العطايا والصدقات والصلات، وهذا كله من لبس الحق بالباطل، وخلط عمل صالح وآخر سيئ. والسيئ من ذلك قد يكون صاحبه مخطئا أو ناسيا مغفورا له كالمجتهد المخطئ الذي له أجر وخطؤه مغفور له، وقد يكون صغيرا مكفرا باجتناب الكبائر، وقد يكون مغفورا بتوبة أو بحسنات تمحو السيئات، أو مكفرا بمصائب الدنيا ونحو ذلك، إلا أن دين الله الذي أنزل به كتبه وبعث به رسله ما تقدم من إرادة الله وحده بالعمل الصالح، وهذا هو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره، قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85] (سورة آل عمران: آية 85) . وقال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18 - 19] (سورة آل عمران: آية 18، ومن الآية 19) . والإسلام يجمع معنيين: أحدهما الاستسلام والانقياد، فلا يكون متكبرا، والثاني الإخلاص من قوله تعالى: {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] (سورة الزمر: من الآية 29) فلا يكون مشركا، وهو: أن يسلم العبد لله رب العالمين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ - إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 130 - 132] (سورة البقرة: الآيات 130-132) . وقال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 161 - 163] (سورة الأنعام: الآيات 161-163) . والإسلام يستعمل لازما معدى بحرف اللام، مثل ما ذكر في هذه الآيات، ومثل قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54] (سورة الزمر: آية 54) . ومثل قوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] (سورة النمل: من الآية 44) . ومثل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83] (سورة آل عمران: آية 83) . ومثل قوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ - وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 71 - 72] (سورة الأنعام: آية 71، ومن الآية 72) ١٢.



١٣ اسلام الوجه لله والاحسان هما اصلا الشريعة ويستعمل متعديا مقرونا بالإحسان، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112] (سورة البقرة: الآيتان 111، 112) . وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125] (سورة النساء: آية 125) . فقد أنكر أن يكون دين أحسن من هذا الدين، وهو إسلام الوجه لله مع الإحسان، وأخبر أن كل من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أثبتت هذه الكلمة الجامعة والقضية العامة ردا لما زعم من زعمه أن لا يدخل الجنة إلا متهود أو متنصر. وهذان الوصفان - وهما إسلام الوجه لله، والإحسان - هما الأصلان المتقدمان وهما: كون العمل خالصا لله، صوابا موافقا للسنة والشريعة، وذلك أن إسلام الوجه لله هو متضمن للقصد والنية لله، كما قال بعضهم: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل وقد استعمل هنا أربعة ألفاظ: إسلام الوجه، وإقامة الوجه، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] (سورة الأعراف: من الآية 29) . وقوله: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] (سورة الروم: من الآية 30) . وتوجيه الوجه كقول الخليل: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] (سورة الأنعام: آية 79) . وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم، يقول في دعاء الاستفتاح في صلاته: «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين» وفي الصحيحين عن البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم، مما يقول إذا أوى إلى فراشه: «اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك» فالوجه يتناول المتوجه والمتوجه إليه، ويتناول المتوجه نحوه كما يقال: أي وجه تريد؟ أي أي وجهة وناحية تقصد، وذلك أنهما متلازمان، فحيث توجه الإنسان توجه وجهه، ووجهه مستلزم لتوجهه، وهذا في باطنه وظاهره جميعا، فهذه أربعة أمور، والباطن هو الأصل، والظاهر، هو الكمال والشعار، فإذا توجه قلبه إلى شيء تبعه وجهه الظاهر، فإذا كان العبد قصده ومراده وتوجهه إلى الله فهذا صلاح إرادته وقصده، فإذا كان مع ذلك محسنا فقد اجتمع أن يكون عمله صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، وهو قول عمر رضي الله عنه: اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا، والعمل الصالح هو الإحسان، وهو فعل الحسنات وهو ما أمر الله به، والذي أمر الله به هو الذي شرعه الله، وهو الموافق لسنة الله وسنة رسوله، فقد أخبر الله تعالى أنه من أخلص قصده لله وكان محسنا في عمله فإنه مستحق للثواب سالم من العقاب. ولهذا كان أئمة السلف يجمعون هذين الأصلين، كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] (سورة الملك: من الآية 2) . قال: أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، وإذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، والخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وقد روى ابن شاهين واللالكائي عن سعيد بن جبير، قال: لا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، ورويا عن الحسن البصري مثله، ولفظه: " لا يصلح " مكان " لا يقبل "، وهذا فيه رد على المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافيا، فأخبر أنه لا بد من قول وعمل، إذ الإيمان قول وعمل، لا بد من هذين، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع وبينا أن مجرد تصديق القلب واللسان مع البغض والاستكبار لا يكون إيمانا - باتفاق المؤمنين - حتى يقترن بالتصديق عمل. وأصل العمل عمل القلب، وهو الحب والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، وهذا ظاهر، فإن القول والعمل إذا لم يكن خالصا لله تعالى لم يقبله الله تعالى، ثم قالوا: ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة، وهي الشريعة وهي ما أمر الله به ورسوله، لأن القول والعمل والنية الذي لا يكون مسنونا مشروعا قد أمر الله به: يكون بدعة ليس مما يحبه الله، فلا يقبله الله، ولا يصلح: مثل أعمال المشركين وأهل الكتاب. ولفظ " السنة " في كلام السلف يتناول السنة في العبادات وفي الاعتقادات، وإن كان كثير ممن صنف في السنة يقصدون الكلام في الاعتقادات، وهذا كقول ابن مسعود وأبي بن كعب وأبي الدرداء رضي الله عنهم: اقتصاد في سنة خير من اجتهاد في بدعة، وأمثال ذلك. والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين. ١٣.



١٤  اخر للكتاب الأمر ب ال بالمعروف ١٤



كتاب العقيدة الواسطيىة



١العقيدة الواسطية تصنيف شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المتوفى سنة 728 ه بدمشق رحمه الله تعالى كتبها سنة 698 ه إجابة لطلب أحد قضاة واسط تقريظ الأديب على زين العابدين خريج الكلية الحربية بمصر : تلك ( العقيدة ) ما أجل سناها قبس يشع على القلوب هداها فيها من القرآن كل فضيلة تهدي الضليل إلى الهدي بضياها فيها الفلاح لمن أراد سعادة في الدين والدنيا إذا يغشاها زفت لنا ( الإيمان ) أجلى صورة وروت ( صفات الله ) في معناها جلت عن التعطيل والتكييف والتشبية والتمثيل ما أسماها فتمسكن بعرى العقيدة إنها وثقت وصيغ من الهدى مبناها وزهت بتصحيح ( ابن مانع ) الذي زاد العقيدة قوة وجلاها فإذا بها شمس يشع ضياؤها في كل قلب ضمها ووعاها علق حواشيها وأشرف على تصحيحها فضيلة العلامة الشيخ : محمد بن عبد العزيز بن مانع مدير المعارف العام - أجزل الله له الثواب وأدامه ذخرا للعلم وطلابه ١



٢ العقيدة الواسطية تصنيف شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني المتوفى سنة 728 ه بدمشق رحمه الله تعالى كتبها سنة 698 ه إجابة لطلب أحد قضاة واسط تقريظ الأديب على زين العابدين خريج الكلية الحربية بمصر : تلك ( العقيدة ) ما أجل سناها قبس يشع على القلوب هداها فيها من القرآن كل فضيلة تهدي الضليل إلى الهدي بضياها فيها الفلاح لمن أراد سعادة في الدين والدنيا إذا يغشاها زفت لنا ( الإيمان ) أجلى صورة وروت ( صفات الله ) في معناها جلت عن التعطيل والتكييف والتشبية والتمثيل ما أسماها فتمسكن بعرى العقيدة إنها وثقت وصيغ من الهدى مبناها وزهت بتصحيح ( ابن مانع ) الذي زاد العقيدة قوة وجلاها فإذا بها شمس يشع ضياؤها في كل قلب ضمها ووعاها علق حواشيها وأشرف على تصحيحها فضيلة العلامة الشيخ : محمد بن عبد العزيز بن مانع مدير المعارف العام - أجزل الله له الثواب وأدامه ذخرا للعلم وطلابه ٢ 


٣ مقدمة المولف بسم الله الرحمن الرحيم ( 1 ) الحمد لله الذي ( 2 ) أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه ( 3 ) وعلى آله وسلم تسليما مزيدا أما بعد : فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره ___ ( 1 ) قوله بسم الله الجار والمجرور متعلقان بمحذوف والمختار كونه فعلا خاصا متأخرا والتقدير أؤلف حال كوني مستعينا بذكر الله متبركا به ولفظ الجلالة دال على الصفة القائمة به تعالى وهي الإلهية قال ابن عباس : الله ذو الإلهية والعبودية على خلقه أجمعين قوله الرحمن الرحيم صفتان لله فالرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم يظهر ذلك بتأمل قوله تعالى ( وكان بالمؤمنين رحيما ) ( 2 ) قوله الحمد لله نقيض الذم وهو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون باللسان والجنان والأركان كما قال الشاعر : أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا ( 3 ) قوله : صلى الله عليه و سلم أصح ما قيل في صلاة الله على عبده هو ما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية قال : صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة ٣



٤ الايمان بما وصف الله به نفسه في كتابه ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه و سلم من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ( 1 ) بل يؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يلحدون في أسماء الله وآياته ( 2 ) ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه ( 3 ) لأنه سبحانه لا سمي ( 4 ) له ولا كفو له ولا ند له ( 5 ) ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى فإنه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا من خلقه . ثم رسله صادقون مصدوقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون ولهذا قال ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب . وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون . فإنه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وقد دخل في هذه الجملة ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن حيث يقول : ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ) وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتابه حيث يقول : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما - أي لا يكرثه ولا يثقله ( 6 ) - وهو العلي العظيم ) ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح . وقوله سبحانه : ( هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ) وقوله سبحانه : ( وتوكل على الحي الذي لا يموت ) وقوله ( وهو العليم الحكيم ) ( وهو الحكيم الخبير ) ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) - ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) وقوله : ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ) وقوله : ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) وقوله : ( إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ) وقوله : ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وقوله : ( إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا ) وقوله : ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ) - ( ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) وقوله : ( أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم . إن الله يحكم ما يريد ) وقوله : ( فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) وقوله : ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) - ( وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ) - ( فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين ) - ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) وقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) وقوله : ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ) وقوله : ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) وقوله : ( وهو الغفور الودود ) وقوله : ( بسم الله الرحمن الرحيم ) - ( ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما ) - ( وكان بالمؤمنين رحيما ) - ( ورحمتي وسعت كل شيء ) - ( كتب ربكم على نفسه الرحمة ) - ( وهو الغفور الرحيم ) - ( فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين ) وقوله : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) وقوله : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه ) وقوله : ( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه ) وقوله : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم ) وقوله : ( ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم ) وقوله : ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وقوله : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر ) وقوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك ) - ( كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا ) - ( ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ) وقوله : ( ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) - ( كل شيء هالك إلا وجهه ) وقوله : ( ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ) - ( وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ) وقوله : ( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) - ( وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ) - ( وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني ) وقوله : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) وقوله : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) - ( أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ) وقوله : ( إنني معكما أسمع ( 7 ) وأرى ) وقوله : ( ألم يعلم بأن الله يرى ) - ( الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم ) - ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) وقوله : ( وهو شديد المحال ) ( 8 ) وقوله : ( ومكروا ومكر الله ( 9 ) والله خير الماكرين ) وقوله : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ) وقوله : ( إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا ) وقوله : ( إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا ) - ( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ) وقوله : ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) وقوله عن إبليس : ( فبعزتك لأغوينهم أجمعين ) وقوله : ( تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ) وقوله : ( فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا ( 10 ) ) - ( ولم يكن له كفوا أحد ) ( فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) - ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) - ( وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا ) - ( يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ) - ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) - ( ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون ) - ( فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) - ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) وقوله : ( الرحمن ( 11 ) على العرش استوى ) ( 12 ) في سبعة مواضع : في سورة الأعراف قوله : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) وقال في سورة يونس عليه السلام : ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) وقال في سورة الرعد ( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش ) وقال في سورة طه : ( الرحمن على العرش استوى ) وقال في سورة الفرقان : ( ثم استوى على العرش الرحمن ) وقال في سورة ألم السجدة : ( الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ) وقال في سورة الحديد : ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش ) وقوله : ( يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ) - ( بل رفعه الله إليه ) - ( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ) - ( يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا ) - ( أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ) وقوله : ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم إينما كنتم والله بما تعملون بصير ) - ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم ) وقوله : ( لا تحزن إن الله معنا ) - ( إنني معكما أسمع وأرى ) - ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) - ( واصبروا إن الله مع الصابرين ) - ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) وقوله : ( ومن أصدق من الله حديثا ) - ( ومن أصدق من الله قيلا ) - ( وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ) - ( وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا ) - ( وكلم الله موسى تكليما ) - ( منهم من كلم الله ) - ( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه ) - ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ) - ( وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين ) - ( وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ) - ( ويوم يناديهم فيقول : ماذا أجبتم المرسلين ) - ( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ) - ( وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) - ( يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل ) - ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ) - ( إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون ) - ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) - ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ) - ( وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون ) - ( قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) وقوله : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) - ( على الأرائك ينظرون ) - ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) ( 13 ) - ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ) وهذا الباب في كتاب الله كثير من تدبر القرآن طالبا للهدى منه تبين له طريق الحق ___ ( 1 ) قوله : من غير تحريف ولا تعطيل قال الراغب تحريف الشيء إمالته كتحريف القلم . وتحريف الكلام : أن نجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين . قال الله عز و جل ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) وصفات الله داله على معان قائمة بذات الرب جل جلاله لا تحتمل غير ذلك فيجب الإيمان والتصديق بها وإثباتها لله إثباتا بلا تمثيل لأنه ليس كمثله شيء وتنزيها له تعالى عن مشابهة خلقه بلا تعطيل والتعطيل جحد الصفات الإلهية وإنكار قيامها بذاته تعالى كما هو قول المعتزلة والجهمية وكذلك لا تكيف صفاته كما لا تكيف ذاته ولا تمثل ولا تشبه بصفات المخلوقين لأنه ليس له كفء ولا مثيل ولا نظير ويرحم الله ابن القيم حيث قال : لسنا نشبه وصفه بصفاتنا إن المشبه عابد الأوثان كلا ولا نخليه من أوصافنا إن المعطل عابد البهتان [ كلامه " أوصافنا " خطأ هنا بل الصحيح أن يقال : " ولسنا نخليه من أوصافه " وقد قال بعده ببيتين : " أو عطل الرحمن من اوصافه " وهو صحيح . محمد حبش وعرفان رباط من مشروع المحدث ] من شبه الله العظيم بخلقه فهو الشبيه لمشرك نصراني أو عطل الرحمن من أوصافه فهو الكفور وليس ذا الإيمان ( 2 ) الإلحاد إما يكون بجحدها وإنكارها وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات وإما بجعلها اسما لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الإلحاد ( 3 ) لأن الصفة تابعة للموصوف فكما أن الموصوف سبحانه لا تعلم كيفية ذاته فكذلك لا تعلم كيفية صفاته مع أنها ثابتة في نفس الأمر ( 4 ) أي مثيلا ونظيرا يستحق اسمه وموصوفا يستحق صفته على التحقيق وليس المعنى ما نجد من يتسمى باسمه إذ أن كثيرا من أسمائه قد يطلق على غيره لكن ليس معناه إذا استعمل فيه كان معناه كما إذا استعمل في غيره ( 5 ) الأنداد : الأمثال والنظراء فكل من صرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله رغبة فيه أو رهبة منه فقد اتخذه ندا لله لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره وذلك كحال عباد الأموات الذين يستعينون بهم وينذرون لهم ويحلفون بأسمائهم ( 6 ) قال في القاموس وشرحه : كرثة الأمر والغم يكرثه بالكسر ويكرثه بالضم اشتد عليه وبلغ منه المشقة قال وكل ما أثقلك فقد كرثك قال الأصمعي لا يقال كرثة وإنما يقال أكرثه ( 7 ) قوله إنني معكما أسمع وأرى قال شيخ الإسلام بعد كلام سبق وهذا شأن جميع ما وصف الله به نفسه لو قال في قوله إنني معكما أسمع وأرى كيف يسمع وكيف يرى لقلنا السمع والرؤية معلوم والكيف مجهول ولو قال كيف كلم موسى تكليما لقلنا التكليم معلوم والكيف غير معلوم اه ( 8 ) وهو شديد المحال أي الأخذ بالعقوبة وقال ابن عباس شديد الحول وقال مجاهد شديد القوة ( 9 ) قوله والله خير الماكرين : قال بعض السلف في تفسير المكر يستدرجهم بالنعم إذا عصوه ويملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر . قال الحسن من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له وقد جاء في الحديث إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج والله جل وعلا وصف نفسه بالمكر والكيد كما وصف عبده بهما لكن ليس المكر كالمكر ولا الكيد كالكيد ولله المثل الأعلى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( 10 ) قال شيخ الإسلام قال أهل اللغة هل تعلم له سميا أي نظيرا استحق مثل اسمه ويقال مساميا يساميه وهذا معنى ما يروى عن ابن عباس هل تعلم له سميا مثيلا أو شبيها اه . وقد سبق ذكر حاشيته بهذا المعنى مفيدة فلتراجع ( 11 ) قوله الرحمن على العرش استوى : الاستواء هو العلو والارتفاع [ قول الإمام ابن تيمية رحمه الله : " الاستواء هو العلو والارتفاع " هو أحد وجوه تأويل الاستواء وذهبت إليه طائفة من السلف فيما ذهبت طائفة ثانية إلى أن الاستواء هو الملك والاستيلاء وفوضت طائفة ثالثة فقالت نؤمن بظاهر النص دون تأويل والمذاهب الثلاثة مروية عن أئمة أهل السنة والجماعة أما دليل الطائفة الثانية فهو من وجهين : أولهما أن للاستواء أكثر من معنى في القرآن الكريم فمنه الاستواء الحسي بمختلف معانيه ومنها العلو والارتفاع ومنه الاستواء المعنوي في قوله سبحانه وتعالى : { ولما بلغ أشده واستوى } . فاخذوا بهذا المعنى من كتاب الله عز و جل وبذلك تقيدوا كذلك بالآية المحكمة : { ليس كمثله شيء } وثانيهما أنه لا يقال مثلا للملك المقهور إذا أسره العدو وجلبوا عرشه إلى سجنه فأجلسوه عليه أنه استوى على العرش بل ينبغي للاستواء بشأن العظام والملوك أن يحمل معاني الملك والقدرة كل بحسبه ( أي أن استواء الشاب هو كمال نموه واستواء الملك هو استيلاؤه على ملكه الحسي واستواء الله عز و جل إذا فسر بالقدرة والاستيلاء فهو كما يليق بصفاته فلا يشاركه خلقه في معاني الاستواء كما إنهم لا يشاركوه في معاني القدرة والرحمة والسمع والبصر إلا بمجرد توافق بين الكلمات ) وبسبب إنكار بعض أفراد هذه المذاهب على غيرها نذكر قول العديد من العلماء منهم الإمام النووي في شرح صحيح مسلم ومنهم الإمام ابن تيمية بعده أن الإنكار هو في ما أجمع عليه وأما ما لا إجماع عليه فلا إنكار فيه . ولا مندوحة من اتباع كلامهم وإلا فيكون صاحب كل مذهب قد تحكم [ جعل نفسه الحكم الفاصل ] في موضوع الخلاف وهذا مما يشتت الأمة ويفرقها قال الله تعالى : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } وليس معنى التفريق المنهي عنه هو اختلاف الاجتهاد حيث قد اختلف الصحابة في الاجتهاد ( مثلا في قوله صلى الله عليه و سلم : لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة وأقرهم النبي على ذلك بسكوته ) وإنما التفريق المنهي عنه هو التكفير والاتهام بالضلالة بدليل معنى الكلمة في قوله تعالى : { ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض } مشروع المحدث ] فهو سبحانه كما أخبر عن نفسه فوق مخلوقاته مستو على عرشه وقد عبر أهل السنة عن ذلك بأربع عبارات ومعناها واحد وقد ذكرها ابن القيم في النونية حيث قال : فلهم عبارات عليها أربع قد حصلت للفارس الطعان وهي استقر وقد علا وكذلك ار تفع الذي ما فيه من نكران وكذاك قد صعد الذي هو رابع وأبو عبيدة صاحب الشيباني يختار هذا القول في تفسيره أدرى من الجهمي بالقرآن والأشعري يقول تفسير استوى بحقيقة استولى من البهتان [ ليس من البهتان بل هو تنزيه لله سبحانه : { ليس كمثله شيء } فإن مذهب الأشعرية لا يشتمل على إنكار الاستواء بل على تأويله تأويلا سائغا في مناهج المفسرين ومع أن من الأشاعرة من فسر الاستواء بالاستيلاء غير أن أبا الحسن الأشعري نفسه قال في " الإبانة " : وأن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزها عن الممارسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال وقال : نقول إن الله عز و جل يستوي على عرشه استواء يليق به من غير طول استقرار كما قال : الرحمن على العرش استوى وقال : لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش دون الأشياء كلها مشروع المحدث ] ( تنبيه ) وقع في بعض الكتب التي زعم مؤلفوها أنها على مذهب السلف عبارة باطلة وهي كما في رسالة نجاة الخلف في اعتقاد السلف قال : فالله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو على ما عليه كان قبل خلق المكان اه [ انظر كلام حجة الإسلام الإمام الغزالي ( ضمن كتب مشروع " المحدث " ) : " ثم خلق الزمان والمكان " وهو موافق للمكتشفات العلمية عن حقيقة الكون وأن الزمان هو مقياس للحركة ومن صفات الأجسام وقد انتقلت " نظرية " النسبية ( وأهم مبادئها هو أن " مرور الزمان " هو نسبي له علاقة بسرعة الحركة وقربها من سرعة الضوء وليس بمطلق ) من طور النظرية إلى طور الواقع بعد ثبوتها واقعيا في المخابر العلمية ( بمراقبة تصرف الألكترونات تحت سرعاتها الهائلة وتحليل انعكاسات الأشعة اللازرية على القمر وغيرها من التجارب ) فثبت بذلك أن مرور الزمان نسبي وليس بمطلق بل يتأثر بسرعة حركة الجسم وقرب تلك السرعة من سرعة الضوء . فثبت بذلك أن الزمان من خصائص الأجسام وصفاتها وأن قولهم " خلق الزمان والمكان " صحيح موافق للواقع مشروع المحدث ] وهذا إنما يقوله من لم يؤمن باستواء الرب على عرشه من المعطلة والحق أن يقال : إن الله تعالى كان وليس معه غيره ثم خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ثم استوى على العرش وثم هنا للترتيب لا لمجرد العطف . قال ابن القيم في النونية : والله كان وليس شيء غيره ويرى البرية وهي ذو حدثان وقال غيره : قضى خلقه ثم استوى فوق عرشه ومن علمه لم يخل في الأرض موضع ( 12 ) قوله : في سبعة مواضع : وقد بينها ابن عدوان في نظمه لهذه العقيدة فقال : وذكر استواء الله في كلماته على العرش في سبع مواضع فاعدد ففي سورة الأعراف ثمت يونس وفي الرعد مع طه فللعد أكد وفي سورة الفرقان ثمت سجدة كذا في الحديد افهمه فهم مؤيد ( 13 ) قال ابن رجب في شرح حديث جبريل وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه و سلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله تعالى في الجنة قال : وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته فكان جزاؤه ذلك النظر إلى وجه الله عيانا في الآخرة اه ٤.


٥ الايمان بما وصف الرسول صلى الله عليه و سلم به ربه ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه ( 1 ) وما وصف الرسول به ربه عز و جل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها ( 2 ) فمن ذلك مثل قوله صلى الله عليه و سلم : ( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : من يدعوني فأستجب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ ) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم براحلته ) الحديث متفق عليه . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخلان الجنة ) متفق عليه . وقوله ( 3 ) : ( عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره ( 4 ) ينظر إليكم أزلين ( 5 ) قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ) حديث حسن . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع رب العزة فيها رجله - وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط ) متفق عليه . وقوله : ( يقول تعالى : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك . فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار ) متفق عليه . وقوله : ( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه وليس بينه وبينه ترجمان ) . وقوله في رقية المريض : ( ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ ) حديث حسن رواه أبو داود وغيره . وقوله : ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) حديث صحيح . وقوله : ( والعرش فوق الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه ) حديث حسن رواة أبو داود وغيره . وقوله للجارية : ( أين الله ( 6 ) ؟ ) قالت : ( في السماء ) قال : ( من أنا ؟ ) قالت : ( أنت رسول الله ) قال : ( أعتقها فإنها مؤمنة ) رواة مسلم . ( أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيث ما كنت ) حديث حسن . وقوله : ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه ولا عن يمينه فإن الله قبل وجهه . ولكن عن يساره أو تحت قدمه ) ( 7 ) متفق عليه . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( اللهم رب السماوات السبع والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء خالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر ) رواة مسلم . وقوله لما رفع الصحابة أصواتهم بالذكر : ( أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا قريبا إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) متفق عليه . وقوله : ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا ) متفق عليه . إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ربه بما يخبر به فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك ( 8 ) كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل هم الوسط في فرقة الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى : بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة ( 9 ) : وهم وسط ( 10 ) في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم وفي باب ( 11 ) وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم وفي باب ( 12 ) أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بين الرافضة والخوارج ( 13 ) ___ ( 1 ) قال ابن عدوان : وسنة خير المرسلين محمد تفسر آيات الكتاب الممجد تبينه للطالبي سبل الهدى تدل عليه بالدليل المؤكد ( 2 ) وما أحسن قول ابن عدوان ناظم هذه العقيدة : ودع عنك تزويقات قوم فإنها بحلتها التعطيل يا صاح ترشد ( 3 ) قال ابن عدوان : ويعجب ربي من قنوط عباده فألق لما بينت سمعك واهتد وفي رقية المرضى مقال نبينا ألا ارق به رضاك يا ذا التسدد رواه أبو داود يا ذا وغيره ألا احفظ هداك الله سنة أحمد ( 4 ) اسم من قولك غيرت الشيء فتغير قال أبو السعادات وفي حديث الاستسقاء من يكفر بالله يلق الغير : أي تغير الحال وانتقالها من الصلاح إلى الفساد ( 5 ) الأزل الشدة والضيق : وقد أزل الرجل يأزل أزلا أي صار في ضيق وحدب كأنه أراد من يأسكم وقنوطكم ( 6 ) قوله : أين الله . هذا فيه رد على أهل البدع المنكرين [ هو في معرض التحقق من إسلام الجارية فكلمها صلى الله عليه و سلم على طريقته الشريفة مقربا السؤال إلى مستوى قدرتها العقلية وليس في هذه الحادثة أكثر من الإقرار بربها الأعلى دون آلهة الأرض وأوثانها حيث لو كانت مشركة لأشارت إلى الأرض وأصنامها أما إشارتها إلى السماء فهو بمقتضى مفهومها عن علو شأن الله تعالى ومباينته للأصنام والأوثان وهذا ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يتحقق منه مشروع المحدث ] لعلو الله على خلقه فنزهوه بجهلهم عما رضي به رسوله فقالوا منزه عن الأين ؟ وذلك جهل وضلال والحق ما جاءت به السنة قال ابن عدوان : وقد جاء لفظ الأين من قول صادق رسول إله العالمين محمد كما قد رواه مسلم في صحيحه كذلك أبو داود والنسائي قد ( 7 ) قال شيخ الإسلام في العقيدة الحموية وكذلك قوله صلى الله عليه و سلم : إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصقن قبل وجهه . الحديث حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي بل هذا الوصف يثبت للمخلوق فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه اه [ حتى يثبت هذا الكلام على من يناجي السماء يلزم أن ينظر إليها أي إلى الأعلى فيقال عندها أنها " فوقه وقبل وجهه " . أما المصلي - على وجه السنة - فنظره إلى الأمام وليس إلى الأعلى قال صلى الله عليه و سلم : لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء أو لتخطفن أبصارهم ( رواه مسلم والنسائي عن أبي هريرة ) وقد وردت تلك الكلمات بدلالتها المعنوية - غير الحسية - في القرآن الكريم كقوله تعالى : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فإن كن نساء فوق اثنتين لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي وفي الحقيقة فإن تأويل النصوص من ظواهرها هو أمر بديهي بل ضروري في سائر النصوص واللغات وإن تحرير مسألة " الجهة " يحمل هذه الدلالة الواضحة ويمكن توضيحها من هذه النصوص القرآنية المتقابلة : - أأمنتم من في السماء - يخافون ربهم من فوقهم - إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه فمن آمن بظاهر هذه النصوص فقد تأول بذلك نصوصا أخرى ولم يأخذها على ظاهرها منها : - وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله - ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا - ونحن أقرب إليه من حبل الوريد - ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تشعرون - وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين فكذلك من آمن بظاهر هذه النصوص فقد تأول النصوص السابقة ولم يأخذها على ظاهرها وهكذا فإن تأويل النص بما يليق بجلال الله هو مذهب لجميع المسلمين . وإنما يحصل الفرق في الاجتهاد بسبب ما خلقه الله سبحانه وتعالى من اختلاف في الأفهام والأمزجة والعقول مشروع المحدث ] ( 8 ) قال ابن عدوان النجدي المتوفى سنة 1179 : وسلم لأخبار الصحيحين يا فتى ولكن عن التمثيل وفقت أبعد ودع عنك تزويقات قوم فإنها بحلتها التعطيل يا صاح ترشد ( 9 ) قوله : بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة : التعطيل هو نفي الصفات الإلهية عن القيام بالذات العلية وتأويلها بلا دليل صحيح ولا عقل صريح كقولهم رحمة الله إرادته الإحسان والإنعام ويده قدرته واستواؤه على العرش استيلاؤه عليه كل هذا وأمثاله من التعطيل وما حملهم على ذلك إلا الظن الفاسد والرأي الكاسد ولقد أحسن القائل حيث يقول : وقصارى أمر من أو ل أن ظنوا ظنونا فيقولون على الر حمن ما لا يعلمونا والجهمية المعطلة هم أتباع الجهم بن صفوان الترمذي . رأس الفتنة والضلال وهم في هذا الباب طائفتان نفاه ومثبتة فالنفاه قالوا : لا ندري أين الله فلا هو داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل فلم يؤمنوا بقول الله وهو القاهر فوق عباده وقول النبي للجارية : أين الله وغير ذلك من أدلة الكتاب والسنة وأما المثبتة من فرقتي الضلال فهم الذين يقولون : إن الله في كل مكان تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا فإنه سبحانه فوق مخلوقاته مستو على عرشه بائن من خلقه وأما أهل التمثيل المشبهة فهم الذين شبهوا الله بخلقه ومثلوه بعباده وقد رد الله على الطائفتين بقوله ( ليس كمثله شيء ) فهذا يرد على المشبهة وقوله : ( وهو السميع البصير ) يرد على المعطلة وأما أهل الحق فهم الذين يثبتون الصفات لله تعالى إثباتا بلا تمثيل وينزهونه عن مشابهة المخلوقات تنزيها بلا تعطيل ( 10 ) قوله : وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية اعلم أن الناس اختلفوا في أفعال العباد هل هي مقدوره للرب أم لا فقال جهم وأتباعه وهم الجبرية : إن ذلك الفعل مقدور للرب لا للعبد وكذلك قال الأشعري وأتباعه : إن المؤثر في المقدور قدرة الرب لا قدرة العبد وقال جمهور المعتزلة : وهم القدرية أي نفاه المقدر : إن الرب لا يقدر على عين مقدور العبد واختلفوا هل يقدر على مثل مقدوره فأثبته البصريون كأبي علي وأبي هاشم ونفاه الكعبي وأتباعه البغداديون وقال أهل الحق : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاه وهي مخلوقة لله تعالى والحق سبحانه منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه فالجبرية غلوا في إثبات القدر فنفوا فعل العبد أصلا والمعتزلة نفاه القدر جعلوا العباد خالقين مع الله ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة . وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه . والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فقالوا : العباد فاعلون والله خالقهم وخالق أفعالهم كما قال تعالى ( والله خلقكم وما تعملون ) وهذه المسألة من أكبر المسائل التي تضاربت فيها آراء النظار وقد ألفت فيها كتب خاصة كشفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل لشمس الدين ابن القيم ولم يهتد إلى الصواب فيها إلا من اعتصم بالكتاب والسنة : مرام شط مرمى العقل فيه ودون مداه بيد لا تبيد ( 11 ) وقوله : وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية وغيرهم قال في التعريفات المرجئة : قوم يقولون لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة وقال القسطلاني في شرح البخاري : المرجئة نسبة إلى الإرجاء أي التأخير لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان حيث زعموا أن مرتكب الكبيرة غير فاسق هم فرقتان كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في الفرقان الأولى الذين قالوا إن الأعمال ليست من الإيمان ومع كونهم مبتدعة في المقول الباطل فقد وافقوا أهل السنة على أن الله يعذب من يعذبه من أهل الكبائر بالنار ثم يخرجهم بالشفاعة كما جاءت به الأحاديث الصحيحة وعلى أنه لابد في الإيمان أن يتكلم به بلسانه وعلى أن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب وقد أضيف هذا القول إلى بعض الأئمة من أهل الكوفة وأما الفرقة الثانية فهم الذين قالوا إن الإيمان مجرد التصديق بالقلب وإن لم يتكلم به فلا شك أنهم من أكفر عباد الله فإن الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان فإذا اختل واحد من هذه الأركان لم يكن الرجل مؤمنا وأما الوعيدية فهم القائلون بالوعيد وهو أصل من أصول المعتزلة وهو أن الله لا يغفر لمرتكب الكبائر إلا بالتوبة ومذهبهم باطل يرده الكتاب والسنة قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وقال عليه الصلاة و السلام : ( من مات من أمتي لا يشرك الله شيئا دخل الجنة ) قال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( وإن زنى وإن سرق ) . فمذهب أهل السنة حق بين باطلين وهدى بين ضلالتين كما سمعت والله أعلم ( 12 ) قوله : وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة وبين المرجئة والجهمية . الحرورية هم الخوارج واعلم أن الناس تنازعوا قديما في الأسماء والأحكام أي أسماء الدين مثل : مؤمن ومسلم وكافر وفاسق وفي أحكام هؤلاء في الدنيا والآخرة فالمعتزلة وافقوا الخوارج على حكمهم في الآخرة دون الدنيا فلم يستحلوا من دماء الفساق الموحدين وأموالهم ما استحلته الخوارج من الفاسق المللي مرتكب الكبائر لأن الخوارج يرون ذلك كفرا وإنما وافقوهم على حكمهم في الآخرة وهو الخلود في النار وأما في الدنيا فخالفوهم في الاسم فقالوا : مرتكب الكبيرة خرج من الإيمان ولم يدخل الكفر فهو بمنزلة بين المنزلتين وهذا أصل من أصول المعتزلة . وهو خاصة مذهبهم الباطل . وأما مذهب المرجئة فقد تقدم أنهم قالوا : لا يضر مع الإيمان معصية ومذهب أهل الحق خلاف هذين المذهبين فلا يقولون بقول الخوارج والمعتزلة ويخلدون عصاه الموحدين بالنار ولا يقولون بقول المرجئة : إن المعصية لا تضرهم بل العبد الموحد مأمور بالطاعات منهي عن المعاصي والمخالفات فيثاب على طاعته ويعاقب على معصيته إن لم يعف الله عنه والبحث طويل لا تتسع له مثل هذه الحواشي وإنما قصدنا بذلك تنبيه الطالب إلى مآخذ هذه المسائل . أما عطف الجهمية على المرجئة كما في نسختنا فليس للمغايرة فإن المرجئة جهمية أيضا فالجهم هو الذي ابتدع التعطيل والتجهم والإرجاء والجبر قال في النونية : جيم وجيم ثم جيم معهما مقرونة مع أحرف بوزان فإذا رأيت النور فيه يقارن ال جيمات بالتثليث شر قران دلت على أن النحوس جميعها سم الذي قد فاز بالخذلان جبر وإرجاء وجيم تجهم فتأمل المجموع في الميزان فاحكم بطالعها لمن حصلت له بخلاصة من ربقة الإيمان والجهم أصلها جميعا فاغتدت مقسومة في الناس بالميزان لكن نجا أهل الحديث المحض أتباع الرسول وتابعوا القرآن عرفوا الذي قد قال مع علم بما قال الرسول فهم أولو العرفان ( 13 ) فالرافضة كفروهم والخوارج كفروا بعضهم وأهل الحق عرفوا فضلهم كلهم وأنهم أفضل هذه الأمة إسلاما وإيمانا وعلما وحكمة رضي الله عنهم أجمعين ٥



٦ الايمان بانه فوق عرشه وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله الإيمان بما أخبر به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه على خلقه وهو سبحانه معهم أينما كانوا يعلم ما هم عاملون كما جمع بين ذلك في قوله : ( هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير ) . وليس معنى قوله وهو معكم أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم إلى غير ذلك من معاني ربوبيته . وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف [ يستحسن الرجوع إلى أقوال المعلق الأخرى فقال مثلا في حاشيته على " الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه " : [ وتحريف الكلام : أن نجعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين ] فكلمة " فوق " هنا يمكن حملها لغة على معناها الحسي ( أي الجهة ) وذلك غير لائق بحق الله تعالى ومخالف للآية المحكمة { ليس كمثله شيئ } وبذلك يصبح من المتشابه ويمكن حملها بأنها لبيان الفوقية المعنوية وهذا ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة فالمسلك الصواب هو الإمساك عن التكلف في تأويل المتشابه بل يجب رده إلى المحكم بأن الله { ليس كمثله شيء } فبالتالي لا يوصف بصفات الجسام من جهة أو غيرها مشروع المحدث ] ولكن يصان عن الظنون الكاذبة مثل أن يظن أن ظاهر قوله ( في السماء ) أن السماء تقله أو تظله وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه . ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ٦.



٧ الايمان بانه قريب مجيب وقد دخل في ذلك الإيمان بأنه قريب مجيب كما جمع بين ذلك في قوله : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) الآية . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ) وما ذكر في الكتاب والسنة من قربه ومعيته لا ينافي ما ذكر من علوه وفوقيته فإنه سبحانه ليس كمثله شيء في جميع نعوته وهو علي في دنوه قريب في علوه ٧


٨. الايمان بان القران كلام الله منزل غير مخلوق ومن الإيمان بالله وكتبه : الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه و سلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية ( 1 ) عن كلام الله أو عبارة ( 2 ) بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة ( 3 ) فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني ( 4 ) ولا المعاني دون الحروف ( 5 ) ___ ( 1 ) كما هو قول الكلابية ( 2 ) كما هو قول الأشعرية ( 3 ) كما هو قول أهل السنة ( 4 ) هذا قول المعتزلة ( 5 ) هذا قول الأشاعرة ٨



٩. الايمان بروية المومنين لربهم وقد دخل أيضا فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرون الشمس صحوا ليس بها سحاب وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون ( 1 ) في رؤيته يرونه سبحانه وهم في عرصات ( 2 ) القيامة ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى ___ ( 1 ) قوله : لا يضامون في رؤيته وفي الحديث لا تضامون في رؤيته قال في النهاية يروى بالتشديد والتخفيف : فالتشديد معناه لا ينضم بعضكم إلى بعض وتزدحمون وقت النظر إليه ويجوز ضم التاء وفتحها ومعنى التخفيف لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض والضيم الظلم وقد اتفق أهل الحق على أن المؤمنين يرونه يوم القيامة من فوقهم كما قال في الكافية الشافية : ويرونه سبحانه من فوقهم نظر العيان كما يرى القمران هذا تواتر عن رسول الله لم ينكره إلا فاسد الإيمان ( 2 ) العرصات : جمع عرصه وهي كل موضوع واسع لا بناء فيه .٩..



١٠ الايمان بما بعد الموت ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم مما يكون بعد الموت . فيؤمن بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه . فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم فيقال للرجل : ما ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فيقول المؤمن : ربي الله والإسلام ديني ومحمد صلى الله عليه و سلم نبيي . وأما المرتاب فيقول : هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته : فيضرب بمرزبة ( 1 ) من حديد فيصيح صيحة سمعها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق - ثم بعد هذه الفتنة - إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى فتعاد الأرواح إلى الأجساد وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلا ( 2 ) وتدنو منهم الشمس ويلجمهم العرق فتنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد ( فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ) وتنشر الدواوين - وهي صحائف الأعمال - فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره كما قال سبحانه وتعالى : ( وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ( 3 ) ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ) ويحاسب الله الخلائق ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه كما وصف ذلك في الكتاب والسنة وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته فإنه لا حسنات لهم ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقرون بها . وفي عرصات القيامة الحوض المورود للنبي صلى الله عليه و سلم ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء وطوله شهر وعرضه شهر من يشرب منه شربة لا يضمأ بعدها أبدا والصراط منصوب على متن جهنم وهو الجسر الذي بين الجنة والنار يمر الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالفرس الجواد ومنهم من يمر كركاب الإبل ومنهم من يعدو عدوا ومنهم من يمشي مشيا ومنهم من يزحف زحفا ومنهم من يخطف خطفا ويلقى في جهنم . فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم فمن مر على الصراط دخل الجنة فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه و سلم وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته وله صلى الله عليه و سلم في القيامة ثلاث شفاعات : أما الشفاعة الأولى فيشفع في أهل الموقف حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم من الشفاعة حتى تنتهي إليه . وأما الشفاعة الثانية فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة وهاتان الشفاعتان خاصتان له وأما الشفاعة الثالثة فيشفع فيمن استحق النار وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها ويخرج الله من النار أقواما بغير شفاعة بل بفضله ورحمته ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا فينشيء الله لها أقواما فيدخلهم الجنة . وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب والجنة والنار وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء . وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه و سلم من ذاك ما يشفي ويكفي فمن ابتغاه وجده ___ ( 1 ) المرزبة بالتخفيف : المطرقة الكبيرة ويقال لها إرزبة بالهمزة والتشديد ( 2 ) الغرل جمع أغرل وهو الأقلف والغرلة : القلفة ( 3 ) قال الراغب : أي عمله الذي طار عنه من خير وشر ١٠


١١ الايمان بالقدر خيره وشره وتؤمن الفرقة الناجية - أهل السنة والجماعة - بالقدر خيره وشره والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين : ( فالدرجة الأولى ) الإيمان بأن الله تعالى عليم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلا وأبدا وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق فأول ما خلق الله القلم ( 1 ) قال له : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال تعالى : ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ) وقال : ( ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير ) وهذا التقدير - التابع لعلمه سبحانه - يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء وإذا خلق جسد الجنين قبل خلق الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات فيقال له : اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ونحو ذلك . فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديما ومنكروه اليوم قليل ( وأما الدرجة الثانية ) فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه . لا يكون في ملكه ما لا يريد ( 2 ) وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه لا خالق غيره ولا رب سواه . ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد ( 3 ) والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلي والصائم . وللعباد القدرة على أعمالهم ولهم إرادة ( 4 ) والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال الله تعالى : ( لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه و سلم مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات ( 5 ) حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها ___ ( 1 ) اعلم أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في العرش والقلم أيهم خلق أولا وحكى ابن القيم في ذلك قولين : اختار أن العرش مخلوق قبل القلم ولهذا قال في النونية : والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني والحق أن العرش قبل لأنه وقت الكتابة كان ذا أركان وكتابة القلم الشريف تعقبت إيجاده من غير فصل زمان ( 2 ) الإرادة نوعان : إحداهما الإرادة الكونية المستلزمة لوقوع المراد التي يقال فيها ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن والثانية الإرادة الدينية الشرعية وهذه لا تستلزم وقوع المراد إلا أن يتعلق بها النوع الأول من الإرادة وفي أوائل فتح المجيد بحث مفيد في الفرق بين الإرادتين فليراجعه طالب التحقيق ( 3 ) اعلم أن الذي عليه الأئمة المحققون ودل عليه الكتاب والسنة أن المشيئة والمحبة ليستا واحدا ولا هما متلازمان بل قد يشاء ما لا يحبه ويحب ما لا يشاء كونه فالأول : كمشيئته وجود إبليس وجنوده ومشيئته العامة لجميع ما في الكون مع بغضه لبعضه والثاني : كمحبته إيمان الكفار وطاعات الفجار وعدل الظالمين وتوبة الفاسقين . ولو شاء ذلك لوجد كله فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن اه ( 4 ) أي فليس بمجبر على أعماله لأنه يعملها بإرادته واختياره فيثاب على الطاعة ويستحق العقاب على المعصية وما أحسن قول ابن عدوان ناظم هذه العقيدة حيث قال : وللعبد يا ذا قدرة وإرادة على العمل افهم فهم غير مبلد فيفعل يا ذا باختيار وقدرة وليس بمجبور ولا بمضهد ( 5 ) أي لأنهم أثبتوا خالقا لما اعتقدوه شرا غير الله . قال في التدمرية إن من الناس من جعل بعض الموجودات خلقا لغير الله كالقدرية وغيرهم لكن هؤلاء يقرون بأن الله خالق العباد وخالق قدرتهم وإن قالوا إنهم خلقوا أفعالهم وقال في النونية : فالناس كلهم أقروا أنه هو وحده الخلاق ليس اثنان إلا المجوس فإنهم قالوا بأن الشر خالقه إله ثان .١١



١٢...الايمان قول وعمل يزيد وينقص ومن أصول أهل السنة والجماعة أن الدين والإيمان قول وعمل : قول القلب واللسان وعمل القلب واللسان والجوارح وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي كما قال سبحانه في آية القصاص : ( فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف ) وقال : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم ) ولا يسلبون الفاسق المللي ( 1 ) الإسلام بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله : ( فتحرير رقبة مؤمنه ) وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق كما في قوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) . وقوله صلى الله عليه و سلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ) ونقول : هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم ___ ( 1 ) أي الذي على ملة الإسلام ولم يرتكب من الذنوب ما يوجب كفره كعبادة غير الله وإنكار ما علم مجيئه من الدين بالضرورة وغير ذلك مما هو معلوم في نواقض الإسلام وموجبات الردة اعاذنا الله منها ١٢



١٣ وجوب حب الصحابة واهل البيت ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كما وصفهم الله به في قوله تعالى : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ) وطاعة النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) . ويقولون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم ويفضلون من أنفق من قبل الفتح وهو صلح الحديبية وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل ويقدمون المهاجرين على الأنصار ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة كما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ويثلثون بعثمان ويربعون بعلي رضي الله عنهم كما دلت عليه الآثار وكما أجمع الصحابة على تقديم عثمان في البيعة مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما - بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر - أيهما أفضل فقدم قوم عثمان وسكتوا وربعوا بعلي وقدم قوم عليا وقوم توقفوا لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي وإن كانت هذه المسألة - مسألة عثمان وعلي - ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة لكن التي يضلل فيها مسألة الخلافة وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ويحبون أهل بيت رسول الله ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال يوم ( 1 ) غدير خم : ( أذكركم الله في أهل بيتي وقال أيضا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم فقال : ( والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي ) وقال : ( إن الله اصطفى بني إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل كنانة واصطفى من كنانة قريشا واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم ) ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم أمهات المؤمنين ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة خصوصا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده أول من آمن به وعاضده على أمره وكان لها منه المنزلة العالية والصديقة بنت الصديق رضي الله عنها التي قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) ويتبرءون من طريقة الروافض الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل ( 2 ) ويمسكون عما شجر من الصحابة ويقولون : إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كاذب ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه . والصحيح منه هم فيه معذورون إما مجتهدون مصيبون وإما مجتهدون مخطئون . وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم . وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إنهم خير القرون وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبا ممن بعدهم ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه و سلم الذي هم أحق الناس بشفاعته أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه . فإذا كان هذا في الذنوب المحققة فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين إن أصابوا فلهم أجران وإن أخطأوا فلهم أجر واحد والخطأ مغفور ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء لا كان ولا يكون مثلهم وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله ___ ( 1 ) قال الزمخشري : خم بضم الخاء اسم رجل صباغ أضيف إليه الغدير الذي بين مكة والمدينة بالجحفة وقيل هو على ثلاثة أميال من الجحفة وذكر صاحب المشارق أن خما اسم غيضة هناك وبها غدير نسب إليها اه والغيضة : الشجر الملتف ( 2 ) هذا هو الحق الذي يجب المصير إليه ولقد ضل كثير من المؤرخين المتنطعين فجعلوا أنفسهم كأنهم حكام بين أصحاب رسول الله فصوبوا وخطأوا بلا دليل بل باتباع الهوى وضعف الدين ولقد أحسن ابن عدوان النجدي بقوله حيث قال : ونمسك عما كان بين صحابه وما صح معذورون فيه فقل قد فإما لهم أجران أو أجر يا فتى فلا تبغ قولا غير ذلك تهتد وليسوا بمعصومين فاسمع مقالنا ولكن لهم ما يوجب العفو فاهتد فقد صح عن خير الخلائق أنهم لخير القرون افهم بغير تردد ١٣.



١٤.. وجوب التصديق بكرامات الاولياء ومن أصول أهل السنة : التصديق بكرامات الأولياء ( 1 ) وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة ___ ( 1 ) كرامات أولياء الله المتقين من عباده الصالحين من الأولين والآخرين ثابتة بالكتاب والسنة وقد أخبر الله بها في كتابه وعرف عباده بما أكرم به أصحاب الكهف ومريم بنت عمران وآصف بن برخيا وكذلك ثبت في كتب أهل السنة ما أكرم به عمر بن الخطاب وأسيد بن حضير والعلاء بن الحضرمي وغيرهم مما هو مفصل في لوائح الأنوار وغيره . ومن أراد تفصيل ما أشرنا إليه فليراجع اللوائح والفرقان لشيخ الإسلام ابن تيمية وشرح الخمسين لابن رجب وغيرها حيث إن هذه الحاشية لا تتسع لبسط ذلك وقد عد أهل السنة من أنكر كرامات الأولياء وخوارق العادات من أهل البدع لمخالفته الدليل ( تنبيه ) لا تظن أيها القاريء أن أصحاب الطرق المبتدعة الذين يسالمون الحيات ويمسكونها ويدخلون النار تخييلا ويضربون أنفسهم بالسلاح كذبا وتدجيلا من أولياء الله بل هم من أولياء الشيطان نعوذ بالله من أفعالهم ونبرأ إلى الله منهم ومن أحوالهم [ وتفصيل ذلك يكون بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم : فمن كان متمسكا بهما فقد نال الكرامة العظمى وما أظهره الله له من الخوارق فيرجى أنها دليل ولايته ومن شذ عنهما فقد خسر وما ظهر عليه من الخوارق فمن باب الاستدراج نعوذ بالله من الضلال آمين مشروع المحدث ] .١٤.



١٥ من علامات اهل السنة الاتباع وليس الابتداع ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنا وظاهرا واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس ويقدمون هدي محمد صلى الله عليه و سلم على هدى كل أحد ولهذا سموا أهل الكتاب والسنة وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان ( لفظ ) الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين والإجماع هو الأصل الثالث ( 1 ) الذي يعتمد عليه في العلم والدين وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح . إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ___ ( 1 ) وأما الأصل الأول فهو القرآن وأما الثاني فهو سنة النبي عليه السلام ١٥



١٦ متفرقات والخاتمة ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا ويحافظون على الجماعات ويدينون بالنصيحة للأمة ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه و سلم : ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) وشبك بين أصابعه وقوله صلى الله عليه و سلم : ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمر القضاء ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ويعتقدون معنى قوله صلى الله عليه و سلم : ( أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ) ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك ويأمرون ببر الوالدين وصله الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها ( 1 ) وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم . لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي حديث عنه أنه قال : ( هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولوا المناقب المأثورة والفضائل المذكورة وفيهم الأبدال ( 2 ) وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه و سلم : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ) فنسأل الله أن يجعلنا منهم وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه الوهاب والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ___ ( 1 ) قوله سفسافها السفساف الأمر الحقير والرديء من كل شيء وهو ضد المعالي والمكارم ( 2 ) قوله : الأبدال : قال ابن الأثير في حديث عن الأبدال بالشام : هم الأولياء والعباد الواحد بدل كحمل وأحمال وبدل كجمل سموا بذلك لأنهم كلما مات واحد منهم أبد بآخر اه ولو قيل : إن الأبدال هم الذين يجددون الدين كما في الحديث لما كان بعيدا وليس مراده بالأبدال ما اشتهر على لسان عباد القبور حيث يقولون : الأقطاب والأوتاد والنجباء والأبدال والغوث فيضلون بهذه الأسماء الجهال زاعمين أن لها حقيقة وما هي والله إلا خرافات لا حقيقة لها سوى العقائد الفاسدة الزائغة الشركية نسأل الله الشفاعة والعافية من كل بدعة وضلالة وأن يثبتنا على الصراط المستقيم بمنه وكرمه ١٦

١٧ خاتمة الطبع الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته ووفق من أراد سعادته لطاعته وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أما بعد : فإن العقيدة الواسطية تأليف : شيخ الإسلام ابن تيمية التي ألفها إجابة لطلب القاضي رضي الدين الواسطي من أحسن ما ألفه الأئمة في بيان معتقد أهل السنة فليس في يد الطلبة اليوم أحسن منها ولا مثلها فإنه رحمه الله بين فيها القول الحق في مسألة القرآن وأنه كلام منزل غير مخلوق وأن ألفاظه وحروفه ومعانيه عين كلام الله وأن الله يتكلم بمشيئته وإرادته . كما أنه رحمه الله بين القول الصحيح في وجوب إثبات الصفات الإلهية كاستواء الله على عرشه وعلوه على خلقه ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة ومجيئه يوم القيامة ونظر المؤمنين إليه سبحانه في عرصات القيامة وبعد دخولهم الجنة ووضح معنى قرب الله من عباده ومعنى كونه معهم أينما كانوا وبين أن ذلك كله حق ثابت [ هو حق ثابت فاستواؤه معلوم وثابت وهو غير حسي وكذلك نزوله ومجيئه وقربه ومعيته : جميعها ثابتة وحقيقة وهي غير حسية . وقد وردت تلك الكلمات بدلالتها المعنوية - غير الحسية - في القرآن الكريم كقوله تعالى : وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فإن كن نساء فوق اثنتين ورفع بعضكم فوق بعض درجات لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي مشروع المحدث ] على ما يليق بعظمة الله تعالى وذكر قول أهل الحق في الإيمان بالقدر ورد قول المعتزلة والجبرية وبين أصول أهل السنة التي بنوا عليها عقائدهم وأعمالهم إلى غير ذلك من قواعد العقائد المؤيدة بنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة فهي جديرة بالاعتناء بها حفظا ودرسا ومطالعة . فلهذا علقت عليها حواش تفصل مجملها وتوضح مشكلها وتسهل فهمها لقرائها وقد امتازت هذه الطبعة الأخيرة بزيادات لم توجد في الطبعات التي قبلها لاسيما ما ذكرناه من نظم عبد العزيز بن عدوان النجدي أحد علماء الوشم رحمه الله تعالى فإنه نظم هذه العقيدة من الطويل جزاه الله خيرا وأثابه الجنة بمنه تعالى وكرمه وسمت همة الفاضل النجيب الشيخ عمر عبد الجبار لطبعها فجزاه الله خيرا ووفقه لنشر أمثالها من مؤلفات أهل السنة والجماعة الذين هم الفرقة الناجية الذين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة كما أخبر به النبي الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم تسليما كثيرا قاله بلسانه وكتبه ببيانه محمد بن عبد العزيز بن مانع ١٧

المقحمات في عرف اصحاب التأويل والتعقيب

  المقحمات والنووي   -----------  التعقيب  علي المقحمات  التعقيب علي المقحمات المقحمات   المقحمات قلت المدون يتبين م...